أبو إسحاق الحويني: داعية وعلامة و حامل لواء الحديث في زمانه

أبو إسحاق الحويني: حامل لواء الحديث في زمانه العلم الشرعي ميراث الأنبياء، ومنارة تهدي السائرين إلى الحق. في زمن كثرت فيه الفتن، يبقى التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بفهم السلف الصالح هو السبيل للنجاة. فما أعظم شأن المحدثين وحملة لواء السنة في حفظ هذا الدين ونشره بين الناس!

كتبت: نونا النبهاني

في قرية مصرية هادئة، ولد عام 1956 طفل قدر الله له أن يكون من أعلام الحديث في زمانه. كبر وشق طريقه بين الكتب والمخطوطات، باحثا عن نور السنة في ظلال الأسانيد، حتى صار اسم “أبو إسحاق الحويني” يتردد في مجالس العلم، يوقظه الشغف بالحديث ويؤرقه حبه للتحقيق والتدقيق. رحل إلى قطر عام 2025، لكنه لم يرحل عن قلوب طلابه ومحبيه، فقد ترك وراءه إرثا علميا خالدا، يشهد له الزمان أن الحديث كان حياته، وأنه عاش ومات في سبيله.

في قاعات جامعة عين شمس بالقاهرة، كان شاب يخطو بثقة بين صفوف دارسي اللغة الإسبانية، متألقا في دراسته حتى أصبح من أوائل دفعته. لم يكن يدري أن رحلة العلم ستأخذه إلى أبعد مما تخيل. حصل على بعثة دراسية إلى إسبانيا، ولكن شيئًا ما بداخله كان يناديه لطريق آخر. لم تدم رحلته هناك طويلا، فسرعان ما عاد إلى وطنه، مدفوعا بشغف مختلف، شغف بالعلم الشرعي. شدّ الرحال إلى الأردن والسعودية، حيث انكبّ على كتب الحديث، ينهل من معين العلماء، حتى أصبح أحد رموز هذا العلم في عصره. كانت رحلته تبدو مختلفة عن مسارها الأول، لكنها كانت الرحلة التي خُلق لها.

ميلاده واين نشأ

في صباح العاشر من يونيو عام 1956، ولد طفل في قرية “حوين” الهادئة، التابعة لمركز الرياض بمحافظة كفر الشيخ. لم يكن يعلم أحد أن هذا المولود، حجازي محمد يوسف شريف، سيصبح لاحقًا واحدا من أبرز رموز الحديث في عصره، يعرف بكنيته التي ارتبطت بقريته، أبو إسحاق الحويني”. كان الابن الثالث بين خمسة إخوة، نشأ في كنف أسرة بسيطة، لكن قدره كان أكبر من حدود قريته الصغيرة. سنوات قليلة، وكان اسمه يتردد في حلقات العلم، ليبدأ رحلة طويلة في خدمة السنة النبوية، تاركا بصمته في قلوب طلابه ومحبيه.

في قلب الريف المصري، حيث تمتد الحقول الخضراء وتحكي الأرض قصص الكفاح، وُلد “حجازي محمد يوسف شريف” في قرية حُوَيْن بمحافظة كفر الشيخ. كان ينتمي لعائلة ريفية متوسطة الحال، تعيش من زراعة الأرض، لكنها كانت غنية بالقيم والعلم. ورث عن والده، أحد أعيان قريته، العزة والمكانة، وعن والدته الدفء والدعم الذي لازمه في رحلته الطويلة مع العلم. اختار له والده اسم “حجازي”، تبركًا بموسم الحج، لكن الأقدار كانت تهيئ له رحلة أخرى، ليست إلى مكة وحدها، بل إلى آفاق العلم والمعرفة، حتى صار اسمه “أبو إسحاق الحويني” يتردد في مجالس الحديث ومحافل العلماء، علامةً على عشق لا ينتهي للسنة النبوية.

بداية رحلة العلم

في بدايات رحلته مع العلم، كان قلبه معلقا بتراث المحدثين الكبار، فاختار لنفسه كنية “أبو الفضل” حبا في الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني، شيخ المحدثين. لكن مع اتساع رحلته الفكرية وقراءته العميقة، شده فكر الإمام أبي إسحاق الشاطبي، فوجد في اسمه صدى لروحه، فغير كنيته إلى “أبي إسحاق”. وقيل إنه اختارها أيضًا إيمانا ب الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص. لكن مهما تعددت الأسباب، بقي الاسم الذي يعرف به في أوساط العلم مرتبطا بقرية، “الحويني”، ليكون شاهد على مسيرة عالم نذر حياته للحديث، فحمل اسمه قريته إلى آفاق أبعد من حدود الزمان والمكان.

 

في قريته الصغيرة، لم تكن المدارس قريبة، لكن ذلك لم يمنعه من السعي وراء العلم. خطا أولى خطواته التعليمية في مدرسة “الوزارية الابتدائية” بالقرية المجاورة، حيث تفتحت عيناه على عالم الحروف والأرقام. ومع انتقاله إلى المرحلة الإعدادية في “الشهيد حمدي إبراهيم” بكفر الشيخ، بدأ شغفه بالكلمة، فراح يكتب الشعر، يعبر به عن مشاعره وأفكاره المتقدة. وفي المرحلة الثانوية، انتقل إلى مدرسة “الشهيد عبد المنعم رياض”، حيث اختار القسم العلمي، مسلحا بحب المعرفة وروح البحث التي تقوده لاحقًا إلى رحلة طويلة، ليس في العلوم التجريبية، بل في بحور الحديث والفقه، ليصبح منارة لمن يسيرون على درب السنة النبوية.

 

في قلب القاهرة، وسط أروقة جامعة عين شمس، التحق بكلية الألسن، حيث اختار التخصص في اللغة الإسبانية. لم يكن مجرد طالب عادي، بل تألق في دراسته حتى تخرج بامتياز، واضعا أمامه طموحا كبيرًا: أن يصبح عضوا في مجمع اللغة الإسبانية. بدا له الحلم قريبًا حين حصل على منحة دراسية إلى إسبانيا، حيث فتحت أمامه أبواب العلم والتخصص. لكن شيئًا ما في داخله كان يناديه لطريق آخر، طريق لم يكن مرسوما في خططه الأكاديمية. لم يستمر طويلا في إسبانيا، بل عاد إلى وطنه، ليبدأ رحلة جديدة، ليس في قواميس اللغات، بل في كتب الحديث و أسانيد السنة، رحلة تغيير مسار حياته إلى الأبد.

 

لم يكن شغفه بالعلم ليتوقف عند حدود اللغات الأجنبية، فبعد تخرجه، بدأ صوت آخر يناديه من أعماق روحه، صوت الكتب الصفراء والمخطوطات العتيقة، صوت الحديث والفقه والتفسير. اختار أن يسلك طريقا مختلفا، تفرغ لدراسة علوم الشريعة، متنقلا بين حلقات العلماء، يبحث عن نور المعرفة بين صفحات التراث.

 

في مجالس الشيخ محمد نجيب المطيعي، نهل من أصول الفقه، يدرس القواعد التي تضبط فهم النصوص. وفي منبر الشيخ عبد الحميد كشك، لم يتعلم فقط أساليب الدعوة، بل استنشق روح الخطابة، وأدرك كيف يكون للكلمة وقعها في القلوب. كان ذلك بداية رحلة طويلة، رحلة عالم سيحمل راية الحديث في زمانه، ويسير على خطى المحدثين الأوائل، باحثا عن الحقيقة بين السطور والأسانيد.

 

لم يكن شغفه بالعلم ليتوقف عند حدود مصر، بل دفعه عطشه للمعرفة إلى شد الرحال، فحط به المسير في الأردن، حيث التقى بالعلامة المحدث ناصر الدين الألباني. هناك، في مجالسه، عاش بين الأسانيد، يغوص في أعماق الحديث، حتى أصبح من أبرز تلامذته و أكثرهم تأثرا بمنهجه.

 

لكن رحلته لم تنته بعد، فقد قاده الشوق إلى أرض الحرمين، حيث جلس بين يدي الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن صالح العثيمين، ينهل من علوم العقيدة والفقه، يزداد يقينا أن طريقه قد رُسم منذ زمن، وأنه وُلد ليكون حاملا للواء السنة.

 

عاد إلى مصر، لا ليختبئ بين الكتب، بل ليجعل من منابر المساجد منارات علم، ومن حلقاته مجالس نور، يفسر، يشرح، ويجعل الحديث حيا في قلوب طلابه. في كل خطبة، في كل درس، كان صدى رحلته يتردد، يروي قصة رجل وهب حياته للحديث، فأصبح اسمه رمزا له في عصره.

 

 

في ساحة الفكر والدعوة، تعددت الاتجاهات، وتعبت الطرق، لكن “أبو إسحاق الحويني” اختار أن يسير في دربٍ خاص، يعرف بـ”السلفية العلمية”، مدرسة لا تهتف بالشعارات، بل تُعلي من شأن الكتب والمخطوطات، تنشغل بتدريس الحديث والتفسير والفقه، وتنأى بنفسها عن أروقة السياسة وصراعاتها.

 

في زمن انجرفت فيه تيارات نحو المواجهة، فضلت “السلفية العلمية” التفرغ لإحياء علوم الدين، مبتعدةً عن معارك “السلفية السياسية” وتقلباتها، ومتميزةً عن “السلفية الجهادية” بنهجها الهادئ، الذي يرى في التصحيح العلمي والبناء المعرفي السبيل الأقوى لإحياء الأمة.

 

وسط هذا التيار، كان الحويني أحد رموزه البارزين، فارسًا في ميدان الحديث، لا يحمل سلاحًا، بل مخطوطةً قديمة أو كتابًا عتيقًا، يعيد للأسانيد روحها، ويُبعِد عنها غبار النسيان، مؤمنًا بأن التغيير الحقيقي يبدأ من العلم، ومن سطورٍ تُدرّس، لا من شعاراتٍ تُرفع.

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.