أبو العزائم: الإمام الذي مدّ جسور التصوف بين النيلين بقلم : د. عمر محفوظ

 

ابو العزائم.. إذا أردت أن تعرف أثر الأوتاد في الجغرافيا الروحية للعالم الإسلامي، فلا تبحث عنهم في كتب السياسة ولا في خرائط النفوذ، بل ابحث عنهم في وجوه المريدين، وفي الدموع التي تنهمر على أطراف السجادة، وفي صمت العارفين حين يذكر اسم “العزائم”.

 

بقلم / د. عمر محفوظ

الإمام محمد ماضي أبو العزائم، ليس مجرد اسم في سجل الطريقة العزمية، ولا هو فقط أحد المجددين الصوفية في القرن الرابع عشر الهجري، بل هو حالة روحية اجتازت الزمان والمكان، وامتدت من صعيد مصر إلى قلب الخرطوم، ومن محراب التأمل إلى ميادين الفعل السياسي والثقافي.

الإمام أبو العزائم لم يكن صوفياً بالمعنى الكلاسيكي للتصوف، بل كان مشروعاً نهضوياً متكاملاً، اتخذ من التصوف منصة للوعي لا للهروب، وللحضور لا للعزلة. كان خطابه الصوفي محمولاً على أجنحة العقل لا فقط أذواق القلوب. وهنا تكمن فرادة الرجل.

أمام عقل إصلاحي

 

في مصر، مثّل أبو العزائم صوتًا غير مألوف في المشهد الصوفي المهادِن، إذ مزج بين علم الشريعة، وفهم الحقيقة، ومعرفة السياسة.

وحين تتأمل في خطبه ورسائله، تدرك أنك أمام عقل إصلاحي لا يرضى بالواقع، لكنه يرفض أيضًا الصدام المجاني. تصوّفه لم يكن دروشة، بل كان مقاومة ناعمة، حازمة، عاقلة.

أما في السودان، فقد كان الإمام أكثر من مجرد زائر؛ لقد كان مرسَلًا صوفيًا، لا بالمعنى التبشيري، بل بالمعنى الوجودي. دخل السودان فوجد أرضًا خصبة للمدّ العزمي، فسكنت روحه هناك، وامتد طريقه في أجيال من الفقراء والمحبين. لم يدخل الإمام إلى السودان كشيخ طريقة، بل كإمام وُجد ليبني جسور المحبة بين النيلين، ويؤسس لحضور صوفي متوازن، لا يقع في فخ الإنعزال ولا في فوضى التدخل.

ولعل أكبر ما ميّز مشروع أبو العزائم، هو أنه لم يكتفِ بتأسيس طريقة، بل أسّس عقلية. عقلية ترى في التصوف ليس مجرد طقوس، بل مسلكًا اجتماعيًا وسياسيًا وإنسانيًا.

فقد أدرك الرجل – بحسّ العارف – أن زمن الصوفية المنكفئة قد ولّى، وأن على المتصوف أن يكون شاهدًا ومشاركًا في حركة المجتمع.

وقد كان الإمام شاعرًا من طراز خاص، يقطر شعره بحِكَم العارفين ونار المجاهدة. لكنّه أيضًا كان رجل مؤسسات: أنشأ الصحف، كتب في السياسة، وحاور القوميين، وخاطب النخبة بلغة العقل، وخاطب العامة بلغة المحبة.

 

رجل دولة روحية

 

في زمن الاضطراب، اختار الإمام طريق الثبات. وفي زمن التشظي، اختار الوحدة. فكان خطابه الصوفي جسرًا بين مصر والسودان، بين الشرق والغرب، بين الروح والعقل.

وإن أردنا أن نقرأ أبو العزائم اليوم، فلا نقرأه فقط في أوراده، بل نقرأه في دعوته للتجديد، وفي رفضه للاحتلال، وفي تأسيسه لحالة من الصوفية الواعية، التي لا تنسحب من العالم، بل تعيد تشكيله بروحانية متجذرة، وعقلية متحررة.

ذلك هو الإمام… لا شيخ زاوية، بل رجل دولة روحية.

لا مجرد مؤسس طريقة، بل مؤسس طريق.

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.