وُلِدْتُ يتيماً ، وجدت نفسي مُشرَّداً في شوارع الحياة ،
مترنحاً بين صناديق القمامة أبحث عن قوت يشدد عضدي ويصلب كياني ،
وكأن الحياة قد قذفتني بين تلك الأزقة و الأروقة المختلفة فصرت تائهاً حائراً بينها لا أعرف من أين أسير
وكيف أجد اتجاهي وظللت أضل الطريق لسنوات طوال حتى وجدت مَنْ ينقذني من كل ذلك الشقاء والعناء ،
مَنْ يتمكن من رعايتي و الحفاظ على حياتي التي كادت تضيع بين طرق الحياة المتباينة ،
مَنْ يتمكن من حفظ حقوقي وجلب أبسط متطلباتي ، مَنْ يشعر بحاجتي وضعفي وقلة حيلتي ،
يقلص وحدتي ، يُخلِّصني من عذابي وتيهي ، فلقد رأني أحد الأبوين اللذين فقدا قدرتهما على الإنجاب
و حرمتهما الحياة من تلك النعمة التي يتمناها الجميع فقرروا أن يتبنوني شفقةً بحالي و بحثاً عن
تلك المتعة التي تمنوا عيشها في الماضي ، فلقد أخذاني وقاموا بإيوائي في منزلهم الفخم الذي
يضم الكثير من قطع الأثاث المُميَّزة التي دوماً ما كنت أتطلع إليها من خلف زجاج المحلات المختلفة
أثناء تجولي وترحالي بين شوارع المدينة التي لم أتمكن من تحديد إياها حتى الآن وصاروا يُقدِّمون
لي أشهى الوجبات التي صُنعَت خصيصاً لأجلي ، ثم انتقلت لحُجرتي التي منحاها لي لأقيم بها
وأمكث لبقية حياتي فلقد كانت نعيماً وكأنها الجنة على الأرض فلقد حولا حياتي وكأنها انقلبت
رأساً على عقب و أصابتها طفرة لم تكن على الخاطر فلله الحمد على تلك العَطِيَّة والمنحة
التي وهبني إياها بعد سنوات طويلة من الركض وراء السراب والوهم الذي اكتشفت أنه حقيقة
و ظننت أنه سيرحل عن ذهني ولكنه ظل يطاردني كظلي حتى يومي هذا ، فلم أكن أتخيل أن
أهلي هم مَن تخلوا عني وألقوني بمثل تلك البساطة بعد وفاة والديّ ، ولكن هذين الأبوين قد
عوضاني عن سنوات الحرمان التي ذُقْت فيها كل ألوان المرار والقسوة وعانيت كثيراً فتكفي تلك
الملابس الرثة المُهتَرئة التي كنت أرتديها طوال الوقت ولم تكن تمدني بالدفء على الإطلاق ولكنها
كانت تزيد من برودة أطرافي نظراً لتلك الرُقَع المُبعثَرة بها في كل مكان ولكني لم أكن أبالى بمثل
تلك الأمور فلقد اعتدتها لأني عاصرتها لسنوات طوال لم تمر علىّ بسهولة مطلقاً ولكني عانيت
بها الأمرَّين ولكن شاء القدر أنْ تتحول مجرى حياتي وتأخذ مساراً جديداً مع هذين الأبوين
الرقيقين العطوفين اللذين يملكان عذوبة العالم بين طيات كلماتهم المُنمَّقة وأسلوبهم الهادئ
الفريد المُميَّز في التعامل معي دون أي زجر أو غلظة أو قسوة أو فجاجة ، فلقد منحني الرحمن
كل ما تمنيته وقتما أرسل لي ملائكة الرحمة في ذلك الطريق الذي سرت به آخر مرة ولكنه كان
الطريق المناسب في تلك المرة ليس كغيره من الطرق المنبوذة الشؤم التي سَلكتها مسبقاً دون
أنْ يعطف علىّ أحد ولو بكلمة طيبة يُلطِّف بها قسوة أيامي التي لم يشعر بها أحد سواى ولكنها
أيام و مَضَت كانت ثقال قاسية ولكنها علمتني الكثير من الدروس والعِبر وأدركت العديد من خبايا
وأسرار الحياة في سن صغيرة قبل أنْ أصل لسن الرشد فصرت ناضجاً بما يكفي قبل الأوان …