كم فاوست فى حياتنا ؟! ألا تتذكرون ؟! قالت ضحى والأسطورة الألمانية

كم فاوست فى حياتنا ؟! ألا تتذكرون ؟! قالت ضحى والأسطورة الألمانية

التـنـاص مع الأسـطورة الألمانـيـة :” فـاوســـــــــت ” نموذجــــا :-
تحضر الأسطورة الألمانية ” فاوســت ” في رواية (قالت ضُحى) للكاتب المصرى بهاء طاهر من خلال علاقة تناصية تأتي في سياق سرد الراوي عن الكلام الذي قالته له ضُحى بخصوص رأيها في شخصيته.

بقلم : أ.د / جهاد محمود عواض

قالت ضُحى وهي تهز رأسها : – “أظن أنك مثل الثعلب المشهور في القصة ، تشتهي العنب وتتعزى بأنه حـُصرم”.
“أظن أنك مثل فاوست ، تقرأ الكتب وتتمنى أن تمتلك الدنيا”. (الرواية ص 20)
ففي هذا المشهد شبهت ضُحى البطل / الراوي بالثعلب وفاوست .

فالأصل في قصة “الثعلب والعنب”، أنه ذات يوم من أيام الصيف الحارة، كان الثعلب يتنزه في أحد البساتين، ورأى عنقود عنب ناضج على غـُصـن لشجرة العنب، مرتفع، فقال في نفسه: هذا العنقود هو الذي يروي عطشي وتراجع الثعلب للوراء ، ثم قفز قفزة عالية .

أيضا:ماوراء القمر وقيمة الجمال فى الحياة والموت

لكنه لم يصل إلى العنقود، وكرر القفز ثلاث مرات، لكنه لم ينجح في الوصول إلى العنقود المُغري، فاستسلم أخيراً وسار رافع الرأس، شامخ الأنف وهو يقول : أنا متأكـّد بأنه عنـب حُصرم وحامض.
وهنا نلحظ عملية التبديل التي قام بها التناص بين “الثعلب” و”البطل/الراوي” وهذا التبديل كان مقصوداً من قِبل ضُحى حتى توضّح لنا نحنُ القراء أن البطل يُريد أن يمتلك كل شيء في الدنيا وعندما عجز يَدّعي أنه لا يُريد أي شيء.

أما الأصل في أسطورة “فاوست” أن عالماً ألمانياً كان يحمل اسم (فاوست) وُلـد في أواخر القرن الخامس عشر، وكان سكيراً كسولاً، وشاع عنه أنه على صلة قرابة بالشيطان، ومات في سـن مُبكـّرة عام 1543م.

وكان موته المبكر، وحياته العجيبة، ونهايته القاسية، من أسباب أسطورته الشعبية التي تزعم أن فاوست كان ساحراً، وله قدرة على مخاطبة أرواح الموتى، وقد وقـّع بدمه عقداً مع الشيطان، يُطيع الشيطان في كل شيء، مقابل أن يرد إليه شبابه.

وتحكي الأسطورة أنه مات طريداً من رحمة الله عقاباً له.
وتروي أساطير أخرى، أنه باع نفسه للشيطان ليُرضي رغبته في معرفة الحقائق، وأنه عصى الشيطان، فنال المغفرة، لكنه اهتدى للحقيقة، وهذا ما اقتبسه (جوته) في مسرحيته (فاوست). ( * )
وهنا نلحظ وجه الشبه الذي أقامته ضُحى بين البطل / الراوي وفاوست “أظن أنك مثل فاوست، تقرأ الكتب وتتمنى أن تمتلك الدنيا”.
“فاوست” هو نموذج للإنسان الساعي إلى المزيد من القوة أو الكمال، بواسطة وسائل خارجة عن الطبيعة، هي ما يُعرف بالسحر بأوسع معانيه .. فالمستقبل مجهول ، والإنسان بطبعه فضولي نحو المعرفة، يُريد معرفة مستقبله، والقوة الطبيعية الميسورة له قاصرة .. لذلك يبحث عن قوى خارقـة، كي يُسخّرها لتنفيذ ما يصبو إليه. والطبائع الموجودة في الواقع تقف في سبيله، أو تعجز عن أداء الطلب، فليبحث إذن عن الحل وهو “السـحر”.( * )
وبالطبع فالسـحر يأتي عن طريق قراءة الكتب.
كذلك البطل / الراوي في نظر ضُحى هو نموذج للإنسان الساعي إلى أشياء كثيرة ولكنه غير قادر على تحقيقها، ويُريد أن يمتلك كل ما في الدنيا ولكنه ليس بالضبط هكذا.

لذلك فالبطل ردّ على ضُحى قائلاً:

” في داخلي أشياء.
فقالت له : اعترِف
فقال : أعترف ، لكنها ليست هي المال ولا الترقيات ولا المجد.
أحياناً أمتلئ بالغضب على نفسي وعلى حياتي ، أحياناً تجتاحني أشواق لا أعرف ما هي بالضبط.
نعم في داخلي أشياء ولكني لا أستطيع أن أسميها.
قالت ضُحى وقد تغيّر صوتها: ما أجمل التواضع لو أنه صحيح.
ولكني لم أعرف إنساناً يرغـب من قلبه ، ألا يمتلك .” (الرواية ص 20)
فالراوي / البطل من الممكن أن يكون مهتماً بأن يمتلك بعض الأشياء مثل فاوست ولكنه لم يلجأ إلى السحر لكي يصل إلى ما يهدف إليه ولكن ضُحى مُصرّة على تشبيهه بـ”فـاوست”.

المزيد:المعاناة اللذيذة !! كيف تخلق لذة المعاناة ؟!

لمـاذا ؟

لأن ضُحى نما في صدرها كـُره خاص للرجال ، لأبيها ولزوجها وكل الرجال، فاستبدت بها رغبة في أن تتشفى في الرجال، وفي الوقت نفسه ليس لديها أي ثقة تجاه أي رجل، لذلك فهي مُصرّة على تشبيه ذلك العاشق الجديد بـ”فاوست” الذي يُريد أن يمتلك كل الدنيا و”الثعلب” الذي يشتهي العنب ويدّعي أنه حُصرم. وعندما طلب منها البطل / الراوي أن تثق به قالــت مُحتجة ” لا أستطيع أن أثق بالرجـال “. (الرواية ص 22)
وعدم ثقتها بالرجال هو الذي دفعها إلى إهانة الراوي ورفضها لحُبه في احتقار. بل وتشبيهه بـ”فاوست”.
واستكمالاً لهذه العلاقة التناصية بين الرواية وأسطورة “فاوست” يقول البطل/الراوي في حوار نفسي / تقديري بينه وبين ضُحى:
” وتقولين بصوت خفيض .. وأنت في حُضـني ، هل رأيت يا فاوسـت ؟ .. هـذه الدنيا نغم لا عراك، عـشـق لا تمرّد ، فسلـّم .. لا تـُفكـّر”. (الرواية ص 75)
” فسلـّم .. لا تـُفكـّر” فـضـُحى تُريد أن تقول للبطل/الراوي دعك من هذه الدنيا ولا داعي لتلك المعارك التي نخوضها على الأرض لأن الدنيا نغم لا عراك ، وهذا الكلام نطقت به ضُحى وهي في لحظة توحـّد مع الراوي ؛ أي ما اقترفه فاوست في حق نفسه كان خطأ، وفي النهاية خرج من رحمة الله عقاباً له ، وكل هذا كان بدون داع.
“فاوست” سعى إلى المزيد من القوة، وفي النهاية: الدنيا نغم لا عراك ولا تستحق كل ذلك، وهذا ما تريد أن تقوله ضُحى للبطل الراوي.
فمن خلال العلاقة التناصية التي أقامها بهاء طاهر في هذه الرواية، استطاع أن يجعل من أسطورة “فاوست” مُعادلاً موضوعياً ناجحاً ، من حيث هي تعبير عن مساعي بعض البشر إلى الوصول لمزيد من القوة والكمال ، وكيفية استخدام الوسائل المناسبة لذلك ، لتعبّر عن رغبة البطـل / الراوي في امتلاك بعض الأشياء، وكيفية استخدامه الوسائل المناسبة لذلك، ومدى الربـط / التوحـّد بينه وبين فاوست، وهذه العلاقة كانت من اختراع ضُحى وليس البطل نفسه.
وفى النهاية : أود أن أطرح سؤالا على المتلقى العزيز :
كم فاوست فى حياتنا ؟! ألا تتذكرون ؟!
جهاد

بقلم : أ.د / جهاد محمود عواض

أستاذ الأدب المقارن والنقد الأدبى الحديث بكلية الألسن جامعة عين شمس
عضوة لجنة الفنون والآداب بالمجلس القومى للمرأة

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.