ماوراء القمر وقيمة الجمال فى الحياة والموت

ماوراء القمر وقيمة الجمال فى الحياة والموت

بقلم الناقدة المصرية ا.د جهاد محمود عواض

محمد سلماوى كاتب مصرى من قامة الكبار ، له عشاق كثيرون فى العالم العربى وفى الغرب الأوروبى ، يتميز بذكاء فطين ، وقدرة مكينة على النفاذ إلى أسرار موضوعاته ، وامتلاك شغف قارئه ، بما يبثه من إشارات مغرية فى سطور وجيزة سريعة الإيقاع تامة التكوين .
فعندما تم مناقشة مجموعته القصصية ” ماوراء القمر ” فى الجمعية المصرية للأدب المقارن قلت فى نفسى :

ها هو واحد من أنضج كتاب المسرح العربى يمعن فى هجرانه ويؤكد إنعطافه نحو كتابة القصة والرواية بعد أن نشر عام 2004 عمله الروائى الأول ” الخرز الملون “

ثم فى عام 2010 ” أجنحة الفراشة” وكانت أول مجموعة قصصية له بعنوان ” الرجل الذى عادت إليه ذاكرته ” 1983 م ، لكننى لم أكد أمضى فى القراءة والمناقشة حتى نسيت مشكلة غواية الأجناس الأدبية المتنافسة ، وخاصة لأنه بهذا العمل الذى بين أيدينا يداعب فنا آخر وهو السينما والدراما .

بيد أن محمد سلماوى لا يكتفى بنثر هذه النزعة الدرامية على أجواء ” ماوراء القمر ” ، بل يقدم سبيكة من الأدب الرفيع تتضمن عصارة ثقافية عالية فى الحياة بجوانبها المتعددة ، مع اقتدار على صناعة الرموز وتكثيف المشاعر وتتبع التحولات الإنسانية والمجتمعية التى مر بها كل إنسان عاش وراء هذا القمر .

العنوان :
ويقدم محمد سلماوى فى هذه المجموعة تسع قصص تحت عنوان مركزى هو ( ما وراء القمر ) والوقوف أمام هذا العنوان يحتاج إلى تأمل فى بنيته الصياغية أولا ,ثم ناتجه الدلالى ثانيا ، ثم مرجعيته الثقافية ثالثا 

ويضم العنوان ثلاث مفرادات :

( ما ) اسم الموصول بمعنى الذى و ( وراء ) والمفهوم العام ، أن الكلمة معناها ( الخلف ) لكن ابن منظور يقول أنها تدل على الخلف والقدام ، لأن معنى ( الوراء ) : ما توارى عنك فى الوراء أو القدام .

أما مفردة ( القمر ) فهى حاضرة هنا بمعناها الأسطورى بوصفها ( العالم الآخر ) عند المصريين القدماء ، وتسكنه الأرواح ، ومنه تتحرك حركة ترددية بين الحياة الآخرة والحياة الدنيا . وواضح أن استخدام ( ما ) إشارة إلى أن عالم المخلوقات بعد الموت يفقد مفهوم ( العقل ) ؛ لأن ما لغير العاقل ومن المهم الإشارة إلى أن ( القمر ) يمثل أحد الآلهة الجاهلية ، فهو الإله الذكر فى مقابل ( الشمس ) الإله الأنثى .
وهذا العنوان المركزى يقودنا إلى مجموعة العناوين الداخلية التسعة ، وهذه العناوين التسعة تدخلت تدخلا كاملا فى تشكيل خطوط السرد فى المجموعة .

وإن حولت هذا السرد إلى مجموعة من المحاور التى تبدو استقلالية كل محور منها فى النسق الشكلى ، لكنها تتكامل ، بل تكاد تتوحد فى العمق ؛ إذ تنتمى كلها إلى عالم الموتى بوصفه المحور المركزى فى المجموعة ، إذ حضر – على نحو من الأنحاء – فى كل قصة ، ففى ( لحظة الحقيقة ) لاحق عالم الثيران ، لكن تضمن موت بعض مصارعى الثيران ايضا ، لكن موتهم حضر عن طريق التذكر داخل الحدث ، وفى هذه القصة تحقق الرمز الذى أنتجه العنوان الخارجى فى أن الموت والحياة وجهان لعملة واحدة ، حيث استحضر السرد الكاتب القصصى يوسف إدريس من عالم الموتى ، ليضعه فى حلبة المصارعة بين المشاهدين .

ويحضر الموت فى القصة الثانية ( الجياد السوداء ) ، لكن الموت فى القصة كان موتا اختياريا للمصرى المهاجر الذى بدأ عملية الانتحار ، ولم يلاحق الموت الراوى المقدم على الانتحار ، بل لاحق – ايضا – بعض شخوص القصة ، مثل عمر صديق الراوى وسليم زكى رئيس الشرطة .
ثم يحضر الموت فى القصة الثالثة ( وصية الأستاذ ) لأنها تسرد موت نجيب محفوظ ، ثم يلاحق الموت رئيس الجمهورية الذى حضر للمشاركة فى الجنازة ، وقتل من حوله من رجال السلطة ، أى أن الموت فى القصة كان موتا جماعيا .

ثم يلاحق الموت عالم الكبار والصغار فى قصة ( أطفال الشاطئ ) ….. إلخ المجموعة

الموت والحياة وجهان لعملة واحدة :

محور ارتباط الموت بالحياة أشرت إلى بعض وقائعه فى السطور السابقة على معنى أن الموت هو الوجه الآخر للحياة المضمرة .
ومن اللافت ارتباط هذا المحور بالتوجه العرفانى الذى يرى الموت امتدادا للحياة على نحو من الأنحاء . ومن ثم تردد فى الخطاب الصوفى كثير من الكرامات التى تؤكد هذه العقيدة .

فقد روى النفرى كثير من الوقائع عند تغسيل بعض الموتى وكيف أنهم كانوا يتعاملون مع من يغسلونهم كأنهم أحياء .
أما فى المجموعة التى نقرأها ، فقد تحقق هذا الربط العرفانى بين الموت والحياة ، حيث تابعنا هذا الربط فى ( لحظة الحقيقة ) .
وفى قصة ( اسم هان ) استحضر السرد اسمهان من عالم الموتى لتكتب رسالة للكاتب تسرد فيها مسيرتها الحياتية والفنية ، وتفسر أسباب إقدام الكاتب على كتابة قصتها .

شخوص مرسومة :

وبرغم عناية السرد برسم الشخوص وتحديد ملامحهم الوظيفية السردية ، لكن اللافت عناية السرد بالتفحص فى هذا الرسم ، والغوص فى باطن الشخوص ، للكشف عن جوهرهم الحقيقي ، ولم ينحصر هذا التعمق فى الشخصيات الرئيسية ، بل استوعب الشخصيات الهامشية ففى ( لحظة الحقيقة ) يرصد السرد شخصية مصارع الثيران جسديا ويتابع مهارته فى مصارعة الثور متابعة تفصيلية ، لكنه يتجاوز كل ذلك ليقدم للقارئ التكوين الداخلى للشخصية ليصل إلى القول بأن علاقة هذا المصارع بالثور هى علاقة ( محبة ) وأن عملية قتله فيها نوع من القداسة شبيه بذبح القرابين تقربا إلى الله فى طقوس العبادة .

ويتميز السرد فى هذه المجموعة بقدرته على الحركة الزمنية والمكانية فى انسياب وتماسك وقدرته على التراجع الزمنى الذى يلاحق منتصف القرن العشرين فى الحرب العالمية ثم ملاحقة زمن المظاهرات ضد الاحتلال الإنجليزى فى الأربعينيات وصولا إلى قرب نهاية القرن والفساد السياسى والاقتصادى ونتائجهما من الهجرة المأساوية غير الشرعية للشباب ، وصولا إلى مطلع القرن الواحد والعشرين وتوابعه فى الثورة المصرية 2011 ، 2013 ، ونتائج الربيع العربى فى ظهور الجماعات الإرهابية .

فالمغامرة السردية التى اجترحها سلماوى بجرأة هى توزيع مجموعته على مستويات متوازية لم تلتقِ إلا فى النهاية .
جهاد

كاتبة المقال

ا.د جهاد محمود عواض

أستاذ الأدب المقارن والنقد المساعد كلية الألسن جامعة عين شمس
عضوة لجنة الفنون والآداب بالمجلس القومى للمرأة

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.