نصر أكتوبر.. الجيش المصري وإنسانية القوة

 

نصر أكتوبر .. من المؤكد إننا في كل عام، ومع حلول ذكرى نصر السادس من أكتوبر، لا يستعيد المصريون مجرد مشهد انتصار عسكري مجيد، بل يستحضرون ملحمةً إنسانيةً متكاملة.

بقلم المستشار/ حسام الدين علام

نعم ملحمةً إنسانيةً متكاملة تتجسّد فيها قيم الانضباط والإيمان والرحمة وسط أهوال الحرب. فهذه الذكرى ليست فقط احتفالًا بعبور خط بارليف، بل هي تأكيد دائم على أن عظمة الجيش المصري لم تكن يومًا في سلاحه فحسب، بل في أخلاقه ومبادئه. إنه جيشٌ أخلاقيٌّ، لا يقاتل إلا حين تُفرض عليه المواجهة، ولا يسعى لسفك الدماء، بل يرفع سلاحه دفاعًا عن الحق، وتحت راية العدل والإنسانية.

ضوابط الحرب وحياة الإنسان

وفي عالمٍ تتسع فيه دوائر الصراع، وتغيب عنه أحيانًا الحدود الأخلاقية للحروب، تظل التجربة المصرية شاهدًا حيًا على إمكانية الجمع بين القوة والرحمة. فمنذ فجر التاريخ، قدّم الجيش المصري نموذجًا فريدًا في التزامه بضوابط الحرب، واحترامه لحياة الإنسان وكرامته، سواء في ميادين القتال أو مهام حفظ السلام.
إن انتصار أكتوبر لم يكن فقط انتصارًا بالسلاح، بل انتصارًا للضمير، للإنسانية، وللحق في وجه الباطل.
ويُعدّ هذا الالتزام انعكاسًا مباشرًا لمبادئ الشريعة الإسلامية الغرّاء التي أرست منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا القواعد الأخلاقية للحرب. فقبل أن تُدوَّن اتفاقيات جنيف ، جاء القرآن الكريم ليضع الأسس الأولى للقانون الإنساني الدولي. يقول الله تعالى:

﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾
في هذه الآية تتجلى قاعدة التناسب والتمييز التي تقوم عليها مبادئ القانون الدولي الإنساني المعاصر. فالقتال مشروع للدفاع لا للعدوان، والرحمةُ هي الحدُّ الفاصل بين الشجاعة والتوحش.


كما أوصى النبي محمد ﷺ أصحابه في وصاياه الخالدة:

“لا تَغْدِروا، ولا تُمَثِّلوا، ولا تقتلوا وَلِيدًا، ولا شيخًا كبيرًا، ولا امرأة، ولا تقطعوا شجرًا مثمرًا.”
بهذه الكلمات، أرسى الرسول الأعظم ميثاقًا أخلاقيًا للحروب يسبق القوانين الوضعية بقرون، ويُعلّم الإنسانية أن النصر الحقيقي هو نصر الأخلاق.
وقد تجسدت هذه المبادئ في سلوك الجيش المصري خلال حرب أكتوبر المجيدة عام 1973، حين قاتل من أجل استرداد الأرض والكرامة، لا من أجل التوسع أو العدوان. ورغم شراسة المعارك ، التزم الجنود المصريون بالقواعد الأخلاقية، فاحترموا الأسرى، وتعاملوا مع المدنيين بعدالة، وهو ما حظي بتقدير واحترام المجتمع الدولي. لقد كانت المعركة دفاعًا عن السيادة والإنسانية معًا.

السلام هو الأصل والقوة وسيلةٌ لحمايته

واليوم تواصل الدولة المصرية، عبر مؤسساتها الدستورية، ترسيخ هذه القيم في عقيدة جيشها الوطني.
فالجيش المصري لايسعى إلى المواجهة، ولا يلهث خلف الصراعات، لكنه في الوقت ذاته قوةٌ يُحسب لها الحساب حين يُفرض عليه القتال. يؤمن بأن السلام هو الأصل، وأن القوة وسيلةٌ لحمايته لا لتقويضه.
ويُترجم هذا الالتزام أيضًا في مشاركاته المتعددة ضمن بعثات الأمم المتحدة لحفظ السلام ، حيث يقدّم الجنود المصريون نموذجًا رفيعًا في الانضباط الإنساني، سواء في إفريقيا أو في مناطق أخرى حول العالم. إنهم لا يذهبون فاتحين، بل حَمَلة سلام، يرسّخون الأمن، ويحفظون الكرامة، وينشرون الأمل في المجتمعات الخارجة من النزاعات.
وتتجلى الرؤية نفسها في الجهود المدنية والدبلوماسية التي تقودها الدولة المصرية في نشر ثقافة القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان.
فمركز القاهرة الدولي لتسوية النزاعات وحفظ وبناء السلام (CCCPA) يعدّ منارة تدريبية إقليمية تُخرّج الكوادر القادرة على فهم قضايا نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج، ونشر مفاهيم السلام المستدام.
هذه الجهود تُعزز مكانة مصر كدولةٍ تحوّل المبادئ إلى سياسات، والخبرة إلى التزام عملي.
وفي خضم التحديات الإقليمية الراهنة، تتجلى سياسة الصبر الاستراتيجي التي تتبناها الدولة المصرية باعتبارها مدرسة في الحكمة وضبط النفس. فالجيش المصري يدرك أن الحرب ليست غاية، بل آخر الوسائل دفاعًا عن السيادة والكرامة. هذه الفلسفة العميقة هي ما جعلته موضع احترام الشعوب والمؤسسات الدولية على حد سواء، لأنه جيشٌ لا يُستفز بسهولة، لكنه لا يتهاون إذا اقتضى الأمر.

شجاعة ممزوجة بالحكمة

إن ذكرى أكتوبر تذكّرنا بأن النصر الحقيقي ليس فقط في عبور قناة السويس، بل في عبور الاختبار الأخلاقي للإنسانية. لقد أثبت الجيش المصري أنه يمكن أن تكون قويًا دون أن تكون قاسيًا، وأن تُقاتل بشجاعة دون أن تفقد إنسانيتك.
إنه جيش يكتب تاريخه بأخلاقه قبل انتصاراته، وبإيمانه قبل سلاحه.
لقد ظلّ الجيش المصري عبر تاريخه الطويل عنوانًا للصبر والشرف والالتزام. جيشٌ لا يسعى للحرب، لكنه حين تُفرض عليه، يقاتل بوعيٍ ومسؤوليةٍ واحترامٍ لكرامة الإنسان. قوته ليست في عدده وعتاده فحسب ، بل في ضميره وعقيدته الراسخة بأن حماية الحياة واجبٌ دينيٌّ وإنسانيٌّ معًا.
وهكذا يبقى نصر أكتوبر شاهدًا خالدًا على أن مصر لا تعرف النصر المجرد من القيم ، وأن جيشها العظيم هو الامتداد الحيّ لتاريخٍ من الشجاعة الممزوجة بالحكمة، ومن القوة المتوّجة بالرحمة.
فهو جيشُ الإنسان قبل أن يكون جيشَ السلاح، وجيشُ القيم قبل أن يكون جيشَ الحدود، وجيشُ السلام الذي إن حمل السلاح، حمله بضميرٍ حيٍّ لا يعرف الظلم، بل يعرف فقط كيف ينتصر بإنسانيته.

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.