نهضة مصر الوطن الذي يعود إلى الحياة.. اليوم المنتظر لافتتاح المتحف المصري الكبير
بقلم: عاطف حمدي
كاتب متخصص في السياسة والإدارة الحكومية
هناك لحظات في تاريخ الأمم تتجاوز مجرد مرور الزمن، لتصبح قياسًا لروحها وإرادتها. هي ليست لحظات تصنعها ضوضاء الحروب أو صخب الثورات، بل تتشكل في هدوء وحكمة عندما تتذكر الأمة جوهرها الحضاري وتستعيد هويتها. في صباح الغد، الأول من نوفمبر 2025، ستشرق الشمس فوق أهرامات الجيزة العريقة، لتغمر ضوءها رمال الصحراء القديمة، وتعلن مصر للعالم عن عودتها الكبرى؛ فمن “بوابة الخلود” سيُفتح المتحف المصري الكبير، الحلم الذي صمد لعقود، كرمزٍ لأمة أبت أن تغيب عن صفحات التاريخ.
حلم وطني يتوهج تحت الرماد
لم تكن فكرة المتحف وليدة اللحظة، بل بدأت كحلم وطني قبل ثلاثين عامًا؛ هدفها الأصيل هو عودة الحضارة إلى مهدها الأول. أراد المصريون استعادة آثارهم الموزعة في عواصم العالم، وإعادتها إلى أرض النيل، إلى الرمال الذهبية، وإلى الأيادي التي أبدعت التاريخ.
على الرغم من عقود التحولات والاضطرابات التي مرت بها مصر، لم يمت هذا الحلم، بل ظل يتوهج في القلوب “كجمرٍ تحت الرماد”. واليوم، وبعد أن انقشعت عواصف الماضي، يقف هذا الصرح عظيمًا، شامخًا، ومصريًا “حتى النخاع”.
المتحف: مرآة للوحدة الوطنية
إن المتحف المصري الكبير ليس مجرد بناء من حجر وزجاج، بل هو مرآة وطنية وصوت جديد لمصر التي تحتضن جميع أبنائها. إنه الفضاء الذي يجمع المسلم والمسيحي، العالم والفلاح، الرجل والمرأة، الشيخ والشاب، والحالم والبنّاء.
وبعد سنوات من الانقسام، يستعيد المصريون هنا ما يوحدهم: النيل الذي لا يتوقف عن الجريان، والشمس التي تشرق على الجميع، والأرض التي لا تفرق بين أبنائها. المتحف هو مكان استعادة الوحدة التي تستمد قوتها من تاريخ مشترك.
عند بوابة المتحف، يقف تمثال رمسيس الثاني بعلوه البالغ أحد عشر مترًا ووزنه الذي يتجاوز الثمانين طنًا، ينظر بثقة نحو الأفق، وكأنه يعلن “لقد عدنا”. وفي قاعات الداخل، تلمع كنوز الملك الذهبي توت عنخ آمون، بقطعها الخمسة آلاف التي عادت إلى الوطن بعد قرون من الاغتراب، وكأن الملك الفتى يهمس معلنًا: “روحي عادت إلى بيتها”.
العلم يلتقي بالروح.. والمستقبل ينبض
خلف القاعات المهيبة، يعمل جيل من العلماء المصريين الشباب، متسلحين بأحدث أدوات التكنولوجيا، وقلوبهم عامرة بالإيمان بعبقرية أجدادهم. تتحدث أياديهم لغة التكنولوجيا الحديثة، بينما أرواحهم مشبعة بحكمة إمحوتب وهيباتيا، وإبداع نجيب محفوظ، وبراعة وعطاء جراح القلب العالمي السير الدكتور مجدي يعقوب.
هنا، في هذا الصرح العظيم، يتعانق الماضي والمستقبل. صيانة التراث تتحول إلى علم، وحياة، ورسالة؛ فالثقافة ليست ماضيًا جامدًا، بل “نَفَسٌ يتجدّد”، وإيمان بأن الجمال يمكن أن يغير العالم.
جسر الصداقة: شراكة مصرية-يابانية نادرة
المتحف ليس إنجازًا مصريًا خالصًا فحسب، بل هو ثمرة شراكة إنسانية نادرة بين مصر واليابان. إنه مشروع وُلد من التعاون لا من الصراع، ومن المعرفة لا من السياسة.
لقد تجمعت التمويلات والخبرات والتقنيات لبناء جسر حضاري بين الشرق والشرق، حيث تتحد القيم القديمة والمعرفة الأصيلة بالعلم الحديث، ليؤكد أن العمل المشترك هو أساس النهوض.
مصر تستعيد هويتها.. وبداية لا تنتهي
المتحف المصري الكبير هو “قيامة مصر” الحقيقية، ليست قيامة سلطة، بل قيامة هوية. ليست عودة ملك، بل عودة شعب. بعد أن عانت من الرجعية والفوضى والفقر والنسيان، تقف مصر اليوم من جديد “جميلة، واثقة، متصالحة مع ذاتها”. إنها تقول للعالم: لسنا مجرد ذاكرة محفورة في الحجر، نحن روح لا تموت.
من يصعد درج المتحف ويتأمل الأهرامات من بعيد، يرى “مستقبلًا يولد من بين الرمال”، مستقبلًا تصنعه المعرفة، وتقوده الثقافة، ويحميه الإيمان بالإنسان. فمصر لا تعود إلى ماضيها، بل تمضي نحوه كي تبدأ من جديد.
رسالة مصر إلى العالم اليوم هي: “نحن هنا. نحن نبني. نحن نؤمن بالجمال والكرامة والإنسان”. هذه النهضة ليست صدفة ولا أسطورة، إنها حقيقة تنبض في جدران المتحف، وفي أعين الشباب الذين صنعوه، وفي قلوب الملايين الذين يرون فيه مرآة وطنهم؛ فمصر ليست ماضٍ يُروى، بل بداية لا تنتهي.
دعوة شخصية
بعد خمسة وثلاثين عامًا في هولندا، أشعر أن النيل يناديني من جديد، وصوته يقول: تعال، وانظر، وتذكر. ولهذا، أفتح ذراعي لكل الأصدقاء والمعارف، ولكل من أحبّ مصر أو حلم بها، ولكل من يبحث عن دفء التاريخ وسحر الحاضر، ليرافقني في رحلة إلى المتحف المصري الكبير، وإلى أديرة الصحراء ومقدسات النيل، إلى الأرض التي جمعت بين الإيمان والحضارة، بين الروح والعقل، بين الشرق والإنسانية. مصر عادت لتتنفس من جديد، وأنا ذاهب لأراها، لأشكرها، لأحكي قصتها. فمن يريد أن يرافقني؟

