الإنتحار بين الفرد والمجتمع : قراءة في تصنيفات دوركايم وإسقاطها على الواقع العربي

الإنتحار بين الفرد والمجتمع : قراءة في تصنيفات دوركايم وإسقاطها على الواقع العربي

بقلم : لمياء الأصمعي

ما زالت قضية الانتحار تثير جدلاً واسعاً في مجتمعاتنا العربية، فبين من يعتبرها ضعفاً في الإيمان، ومن يراها هروباً من ضغوط الحياة، تبقى الحقيقة أعمق من كل هذه الأحكام السريعة.
عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم قدّم منذ قرن ونيف تصنيفاته لظاهرة الانتحار، رابطاً إياها بالبنية الاجتماعية، لا فقط بقرار فردي لحظة يأس. واليوم، حين ننظر إلى واقعنا العربي، نجد أن هذه التصنيفات ما زالت تحمل الكثير من الدلالات التي تفسّر ما يحدث في مجتمعاتنا.

1– الانتحار الأناني: عزلة في قلب الزحام

في المدن العربية الكبرى، حيث يزداد الفرد عزلة وسط صخب الحياة وتفكك الروابط الاجتماعية التقليدية، يظهر بوضوح هذا النمط من الانتحار. شباب يقضون ساعات طويلة خلف الشاشات، بعيدين عن العائلة والجماعة، يفتقدون شبكة الدعم الاجتماعي التي كانت القبيلة أو العائلة الممتدة توفّرها قديماً. هنا تصبح الضغوط النفسية أقوى من قدرة الفرد على الاحتمال، فيلجأ إلى الانتحار كخيار مأساوي.

2- الانتحار الغيري أو الإيثاري: حين تبتلع الأزمات الفرد

قد يبدو هذا النمط بعيداً، لكنه حاضر في سياقات عربية مأساوية. نسمع عن أشخاص يقدمون حياتهم فداءً لأسرهم أو مجتمعهم، أو حتى أولئك الذين يضحون بأنفسهم في ظروف حروب وصراعات بدافع حماية الآخرين. هذا الانتحار يرتبط بالثقافة التي تقدّس التضحية وتضع قيمة الجماعة فوق الفرد.

3- الانتحار اللامعياري (الأنومي): ضحية الأزمات الاقتصادية

هنا نجد أوضح إسقاط على مجتمعاتنا العربية. فمع موجات البطالة، غلاء المعيشة، وعدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي، يفقد الفرد بوصلته. كم من قصص شهدناها لشباب عرب أقدموا على الانتحار بسبب عجزهم عن إعالة أسرهم أو فقدان الأمل في المستقبل؟ هذا تماماً ما قصده دوركايم بالانتحار الناتج عن فقدان التوازن وفقدان الاتجاه.


الدين: ركيزة استقرار أم انعكاس اجتماعي؟
يرى دوركايم أن الدين حقيقة اجتماعية، تساهم في ضبط السلوك وتماسك المجتمع. في السياق العربي، يبقى الدين أحد أهم مصادر الأمان النفسي والاجتماعي، لكنه في الوقت نفسه قد يُساء استخدامه إذا تحوّل إلى مجرد خطاب وعظي بعيد عن معالجة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تقود الأفراد إلى اليأس.

رسائل إلى المجتمع العربي

الإسقاط على واقعنا يدفعنا لطرح أسئلة مؤلمة : هل وفرنا لشبابنا بيئة تمنحهم الأمل والقدرة على مواجهة الضغوط؟
هل ما زالت الأسرة العربية تقوم بدورها كشبكة حماية اجتماعية، أم تراجعت أمام عزلة المدن وتفكك القيم؟
وكيف يمكن للمؤسسات الدينية والتعليمية والإعلامية أن تتحرك لتقليل الفجوة بين الخطاب والواقع؟

خاتمة

ظاهرة الانتحار في العالم العربي ليست مجرد حوادث فردية متفرقة، بل هي مؤشر اجتماعي خطير على خلل في منظومة التوازن بين الفرد والمجتمع. تصنيفات دوركايم تذكّرنا بأن فهم هذه الظاهرة لا يكتمل إلا إذا نظرنا إليها في إطارها الاجتماعي الشامل، وأن الحل يكمن في إعادة بناء روابطنا الإنسانية، وإعطاء الأفراد أملاً في الغد.

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.