الاستمطار الصناعي: بين جدوى الموارد المائية وخطورة التوظيف السياسي

حرب السحب: الاستمطار الصناعي من أداة لمواجهة الجفاف إلى سلاح جيوسياسي

كتب باهر رجب

عندما تتحول الغيوم إلى ساحة صراع

في عالم يزداد احترارا و شحا بالموارد المائية، لم تعد السماء ذلك المجال الحيادي البعيد عن متناول الصراعات الأرضية. فتقنيات الاستمطار الصناعي، التي طورت أصلا لمواجهة الجفاف وتأمين المياه، تتحول تدريجيا إلى ورقة سياسية في الصراعات الإقليمية والدولية. ما بدأ كحلم علمي لاستمطار الخير من الغيوم، ها هو اليوم يدخل في حروب غير تقليدية حيث تتصادم مصالح الدول فوق السحب. فكيف تحولت هذه التقنية من أداة إنمائية إلى سلاح محتمل؟ وما الآثار المترتبة على تحويل الغيوم إلى ساحات للتنافس الجيوسياسي؟

ما هو الاستمطار الصناعي؟

الاستمطار الصناعي هو عملية تعديل الطقس بشكل متعمد من خلال استثارة السحب و حفزها لإسقاط محتواها من المياه الكامنة أو الثلوج المتجمدة فوق مناطق جغرافية محددة. تتم هذه العملية باستخدام مواد كيميائية مثل يوديد الفضة، والثلج الجاف (ثاني أكسيد الكربون المجمد)، وبعض الأملاح مثل كلوريد الصوديوم والكالسيوم، والتي تعمل كنوى للتكثيف داخل السحب .

تتم العملية عبر طريقتين رئيسيتين: الطريقة الجوية باستخدام الطائرات أو الصواريخ لحقن السحب بالمواد الكيميائية، والطريقة الأرضية باستخدام مولدات أرضية تطلق أبخرة يوديد الفضة التي تحملها تيارات الهواء الصاعدة إلى السحب . ورغم أن هذه التقنية تعود إلى أربعينيات القرن الماضي عندما اكتشف الدكتور بيرنارد فونيجت طريقة استمطار السحب باستخدام يوديد الفضة. إلا أنها شهدت تطورا ملحوظا في العقود الأخيرة نتيجة تفاقم أزمة المياه العالمية.

التوظيف السياسي والعسكري للاستمطار: من فيتنام إلى الصراعات المعاصرة

التاريخ العسكري للاستمطار

شهدت حرب فيتنام واحدة من أولى الاستخدامات العسكرية المنظمة لتقنيات الاستمطار، حيث أطلقت الولايات المتحدة ما عرف باسم “عملية بوب آي” بين عامي 1967 و1972. كان الهدف المعلوم هو إطالة فترة هطول الأمطار على طريق “هوشي مينه تريل” لتحويله إلى مستنقعات تعيق تحركات مقاتلي “فايت كونغ” . هذه العملية مثلت نقطة تحول في النظر إلى تعديل الطقس كأداة حرب محتملة.

 

صراعات حديثة وحروب سحب

في العصر الحديث، تتصاعد الاتهامات بين الدول حول استخدام تقنيات الاستمطار كأسلوب لـ “سرقة الأمطار”. ففي عام 2018، اتهم مسؤول بارز في الحرس الثوري الإيراني إسرائيل والإمارات بالعمل معا “لجعل السحب الإيرانية لا تمطر” . كما شنت الصحافة الهندية هجوما على الصين متهمة إياها باستخدام تقنيات الاستمطار لسرقة الأمطار الهندية وتعمد زيادة حدة الجفاف في الأراضي الهندية .

هذه الاتهامات، وإن كانت تفتقر أحيانا لأدلة قاطعة، تعكس مدى حساسية التدخل في الأنماط المناخية الطبيعية وكيف يمكن أن تتحول إلى ذريعة لتصعيد التوترات بين الدول المتجاورة.

 

الدول الرائدة في مجال الاستمطار وتطبيقاته

الصين: الطموح والهيمنة المناخية

تعد الصين من أكبر الدول استخداما لتقنيات الاستمطار، حيث أعلنت عن خطط طموحة لتوسيع نطاق تحكمها في الطقس. تهدف بكين إلى أن تكون قادرة على تغطية مساحة تصل إلى نحو 5.5 مليون ميل مربع بتقنيات الاستمطار بحلول عام 2025، وهي مساحة تتجاوز مساحة الهند بمرة ونصف . استخدمت الصين هذه التقنيات خلال أولمبياد بكين 2008 لمنع سقوط الأمطار خلال حفل الافتتاح .

 

الإمارات العربية المتحدة: مواجهة التحدي المائي

في منطقة الشرق الأوسط التي تعاني من ندرة مائية حادة، تبرز الإمارات كرائدة في مجال الاستمطار. مع ارتفاع عدد السكان من 100 ألف نسمة في الستينيات إلى نحو 10 ملايين في 2020، زادت الحاجة لضمان الأمن المائي . وقد خصصت الإمارات 5 ملايين دولار لبرنامج بحثي حول علوم الاستمطار، وسيرت حوالي 200 رحلة استمطار في عام واحد بتكلفة بلغت مئات الآلاف من الدولارات .

 

الولايات المتحدة وروسيا: التراث العسكري والتفوق التقني

تملك كل من الولايات المتحدة وروسيا تراثا عسكريا و تقنيا كبيرا في هذا المجال. فقد اهتم الجيشان الأمريكي و السوفيتي أثناء الحرب الباردة بعلم المناخ وسعيا لاستخدامه كسلاح عسكري . ولا تزال هذه الدول تملك قدرات متطورة في هذا المجال، وإن كانت تستخدمها حاليا بشكل رئيسي لأغراض مدنية.

 

دول عربية أخرى

إلى جانب الإمارات، تطبق عدة دول عربية أخرى تقنيات الاستمطار، منها المملكة العربية السعودية و عمان والمغرب والأردن، في محاولة لمواجهة أزمات شح المياه .

الإيجابيات والسلبيات: توازن دقيق

الإيجابيات والفوائد

مواجهة شح المياه: يمثل الاستمطار حلا محتملا للدول التي تعاني من ندرة الموارد المائية، خاصة في المناطق الجافة وشبه الجافة .

تعزيز الأمن الغذائي: من خلال زيادة المياه المتاحة للزراعة، يمكن للاستمطار أن يساهم في تحقيق الأمن الغذائي .

تعدد الاستخدامات: يمكن استخدام التقنية لأغراض متعددة بما فيها منع سقوط الأمطار الغزيرة فوق بعض المناطق الزراعية، أو منع تشكل الضباب في المطارات .

 

السلبيات والمخاطر

الجدوى الاقتصادية: تشير تقديرات إلى أن نسب نجاح الاستمطار لا تتجاوز 10-15% في بعض الأحيان، مما يثير تساؤلات حول جدواها الاقتصادية .

الآثار البيئية: هناك مخاوف من تأثير المواد الكيميائية المستخدمة، خاصة يوديد الفضة، على صحة الإنسان والبيئة، رغم أن العديد من الدراسات تشير إلى أن سمية هذه المواد منخفضة .

التباين العلمي: لا يزال هناك جدل علمي حول فعالية الاستمطار، حيث يصعب قياس الزيادة الدقيقة في هطول الأمطار نتيجة عملية التلقيح .

حلول واستراتيجيات للمستقبل

تطوير الأطر القانونية والدولية

أدرك المجتمع الدولي مبكرا خطورة استخدام تقنيات تعديل البيئة لأغراض عسكرية، مما أدى إلى توقيع اتفاقية حظر استخدام تقنيات التغيير في البيئة (ENMOD) عام 1977، والتي دخلت حيز التنفيذ في أكتوبر 1978 . لكن هذه الاتفاقية تحتاج إلى تطوير وتعزيز آليات الرقابة على تطبيقها في ظل التطورات التكنولوجية المتسارعة.

 

تعزيز الشفافية والثقة

ينبغي إنشاء آليات للشفافية وتبادل المعلومات حول عمليات الاستمطار بين الدول المجاورة. تحت إشراف منظمة الأرصاد الجوية العالمية. لمنع سوء الفهم والاتهامات المتبادلة بسرقة الأمطار.

 

الاستثمار في البدائل المستدامة

يجب أن يكون الاستمطار مجرد أداة واحدة ضمن استراتيجية شاملة لإدارة الموارد المائية. تركز على ترشيد الاستهلاك، وتطوير تقنيات تحلية المياه. وإعادة استخدام المياه المعالجة، وحماية مصادر المياه الطبيعية من التلوث و الاستنزاف.

 

البعد الديني والأخلاقي

يطرح الاستمطار تساؤلات أخلاقية ودينية. حيث يرى بعض العلماء أنه “لا يجوز شرعا” إذا أدى إلى حرمان مناطق أخرى من حصتها الطبيعية من الأمطار . من المهم إذن وضع أطر أخلاقية تحكم استخدام هذه التقنيات. تأخذ في الاعتبار العدالة في توزيع الموارد الطبيعية بين الدول والشعوب.

خاتمة: نحو عقد اجتماعي جديد لإدارة الموارد الطبيعية

علاوة على ذلك الاستمطار الصناعي، ككثير من التقنيات الناشئة. يحمل في طياته وعودا كبيرة و أخطار جسيمة. وهو يضع البشرية أمام تحد وجودي يتمثل في مدى قدرتها على تطوير أطر حوكمة عالمية عادلة وفعالة لإدارة التقنيات التي تؤثر على المشاعات العالمية مثل المناخ والطقس.

في عالم تتداخل فيه الحدود الوطنية بينما تظل السماء ملكا للجميع. يصبح من الضروري العمل على عقد اجتماعي جديد يضمن استخداما مسؤولا و عادلا لتقنيات تعديل الطقس. بحيث لا تتحول من أداة لمواجهة التحديات البيئية إلى سلاح في الصراعات الجيوسياسية. فالسحب التي تهمين فوقنا جميعا يجب أن تظل مصدر خير للبشرية جمعاء، لا ساحة لصراعاتها.

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.