أرواح طنطا المجانيه وأعين الناس تراقب من خلف النوافذ المغلقة!

ع الهامش بقلم/سيف عامر

أرواح طنطا المجانيه وأعين الناس تراقب من خلف النوافذ المغلقة! 

في الساعة الثالثة وقبل أن يشرق فجر يوم جديد من شهر أكتوبر؛ كانت مدينة طنطا تغرق في سكونها المعتاد، الشوارع خالية والأصوات مكتومة وكأن الليل ابتلع كل شيء في هدوء ثقيل، أظن ان هذا السكون كان مجرد انعكاسًا لتعب المدينة من صخب النهار الطويل وجحيم ازدحامها وضيقها، لكن وسط هذا الهدوء؛ اخترق صوت “بكاء طفل رضيع” حاجز الصمت، صوته كان ينساب بالقرب من أحد البيوت، في البداية بدأ الصوت محيرًا، كأنه صدى قديم لا ينتمي إلى هذا المكان، أطفال المدينة يبكون أحيانًا لكن هذا البكاء كان مختلفًا كان نداءً عميقًا يُسمع فيه الألم والعذاب، وكأنه يسأل العالم عن مصيره التالي القادم!

الصراخ لم يتوقف؛ بل ازداد مع كل دقيقة تمر وكأن الرضيع يعلن عن وصول معاناته للعالم، الصوت كان كافياً ليوقظ الضمائر النائمة ولكنه ظل وحيدًا في مواجهة الليل الطويل، صحيح أي شخص قد يعتقد أنه مجرد صوت طفل قلق، لكنه كان مختلفًا ويزداد عمقًا مع كل لحظة، وكأن الرضيع الصغير لا يبكي لمجرد الجوع أو البرد، بل كان بكاءً محملاً بالأسئلة التي لا إجابة لها!

في تلك اللحظة وعند باب المنزل؛ كانت الطفلة الرضيعة ملقاة بلا رحمة، تُركت في الليل وحيدة وسط ظلامه الذي لا نهاية له، الأسئلة تتلاحق:

كيف يمكن لأم أن تفعل ذلك؟ ولماذا؟

لكن لا إجابة تشفي هذا الحزن العميق، سوى إنهيار في داخل كل من يسمع هذا الصراخ مهما كنت قويًا، مهما كنت معتادًا على التعامل مع أقسى المواقف، يبقى مشهد طفل عاجز يبكي في منتصف الليل كفيلاً بأن يُسقط عنك كل أقنعة القوة، وبين الإرهاق الذهني والظلام الذي يحيط بك تجد نفسك عالقًا بين عجزك عن الفعل وعجزك عن التفكير، وصوت الطفلة يعلو ويزداد وكأنها تطالبك بأن تفعل شيئ..أي شئ.

مع اقتراب الفجر، وعندما بدأت أنوار السماء تتسلل ببطء لتكشف عن ملامح المدينة النائمة؛ وصلت الشرطة ومعها سيارة الإسعاف، لكن المشهد أمامهم كان أكثر حزنًا مما يمكن لأحدهم أن يتخيل، الطفلة ما زالت تبكي، لكن صراخها الآن يختلط بصمت الشارع وأعين الناس التي تراقب من خلف النوافذ المغلقة!

بالنسبة للشرطة كان الأمر مجرد حالة أخرى من حالات الإهمال الملعون، لكن بالنسبة للشارع كان الأمر أكثر تعقيدًا؛ فالأمهات اللاتي وقفن يراقبن الحدث شعرن بثقل لا يُحتمل، أظن ان كل واحدة منهن قد تخيلت نفسها في موقف شبيه وكيف كانت ستدافع عن صغارها، حتى الحيوانات في البرية، وسط غابة لا تعرف إلا قانون البقاء، تجد بينها ما يحمي الصغار ويمنحهم الحنان، تري كلبة ترضع نمورًا، أو قطة تحتضن جراءً صغيرةً لاتعرفها، الغريب أننا ورغم كل ما نراه؛ ننسى، نتناسى كل يوم أكثر وكأن النسيان هو الدواء الذي يمنعنا من مواجهة الحقائق التي لا نريد رؤيتها ولانستطيع مواجهتها.

تلك الليلة أعادت إلى ذاكرتي قصة قديمة روتها لي أمي، يوم كنتُ صغيرًا ومريضًا بنزيف غريب، كانت تحملني بين ذراعيها، تسابق الزمن لإنقاذي وقلقها يزداد مع كل دقيقة تمر؛ كأن كل الأصوات في العالم قد اختفت أمام ضجيجُ أفكارها التي تتسارع داخل عقلها، وفجأة.. اخترق هذا الصخب الداخلي صوت صرخات رضيع آخر، توقفت مكانها وكأن العالم بأكمله تجمد في لحظة واحدة، لم يكن ذلك مجرد بكاء عادي؛ كان صراخاً يستدعي أمومتها ويناديها بقوة رحمتها!

تركتني للحظة وانطلقت نحو مصدر الصوت، وبجانب صندوق قمامة وَجَدت رضيعًا صغيرًا؛ جسده الهش مغطى بالنمل، دون أن تفكر مرتين؛ رفعت الطفل بين ذراعيها ونفضت عنه النمل بحنان الأم التي لا تميز بين ابنها وبين أي طفل في حاجة إلى إنقاذ طارئ.

وعلي الرغم من تجمّع الناس حولها الا انه لم يتدخل احد، تملّكهم الخوف ليس فقط من الموقف؛ بل من التبليغ للشرطة والتعرض للمساءلة، كان الخوف من المساءلة أقوى من أي شعور آخر، وسط هذا التردد الجماعي، قررت أمي حملي على ذراعها والذراع الاخر لرضيع لا تعرف من قصته سوى صرخاته، ودون تردد توجهت مباشرة إلى المستشفى دون أن تنتظر أحدًا يبلغ عن الحادث، كان أمامها خيار واحد فقط، وهو إنقاذ الطفلين بأي ثمن.

عند وصولنا إلى المستشفى ورغم حالتي؛ وضعت أمي كل اهتمامها على الطفل الصغير، ولم تهدأ حتى اطمأنت إلى أن نومه أصبح هادئًا في حضنها، وبعد ذلك أتمت تسليمه للمشفى ليبدأ رحلته نحو المجهول.

حرب تدور رحاها في صمت!

إنقاذ الرضيع في تلك الليلة لم يكن مجرد موقف إنساني، بل كان أشبه بمشهد من حرب تدور رحاها في صمت، وكما في الحروب التي تكون فيها الضحايا من الأطفال الأبرياء، كان الرضيع هو الضحية في ساحة قتال غير مرئية، الفرق فقط؛ أن أطفال الحروب رغم الألم والمعاناة يعرفون أعدائهم، يعرفون أن العدو قادم بأسلحة ورصاص، وينتظرون إمّا النصر أو الموت، أما هذا الطفل المتروك؛ فليس له حرب واضحة، ولا أعداء يعرفهم؛ هو مجرد طفل في عالم يبدو وكأنه تخلّى عن كل معاني الرحمة.

 التخلي عن الأطفال في زمن السلم أصعب وأقسى من تحديات الحرب؛ لأن الحرب رغم بشاعتها تحمل معها معركة واضحة، أما هذا الطفل؛ فمعركته هي ضد الإهمال واللامبالاة، وهي معركة أكثر ترويع؛ لأنها تأتي من مجتمع كان يجب أن يكون ملاذًا آمنًا، وليس ساحة للخذلان.

أطفال الحروب يسقطون ضحايا للقنابل والأسلحة، أما أطفال الشوارع فهم ضحايا للغدر الذي لا صوت له، إنه تحدٍّ أكبر من تحديات المعارك؛ لأنه يمثل انهيارًا للقيم الإنسانية في أعمق مستوياتها.

هذه التجربة، لم تكن مجرد موقف عابر بل باتت جزءًا من إرثنا العائلي وتذكارًا حيًا على أن هناك قوى في الحياة لا نملك تفسيرًا لها، لكنها تؤثر في مصائرنا بشكل عميق. ومنذ ذلك اليوم ترسخت في قلوبنا قيم (الخدمة المجتمعية كأسره) كأمر لا يُفرض من الخارج، بل ينبع من الداخل، كنوع من الوفاء لشيء أكبر من الذات، لم تكن الخدمة بالنسبة لنا بحثًا عن إمتنان أو تقدير؛ بل كانت تعبيرًا عن التزام أخلاقي عميق، وربما لم يكن من نخدمهم دائمًا يظهرون الإمتنان أو حتى يفهمون عمق تلك الخدمة، بل في بعض الأحيان قد تأتي من خلفهم صعوبات أو جحود، لكن على الرغم من كل ذلك تظل الخدمة أعظم أسلحة الحياة وأكثرها سحرًا، إنها القوة الخفية التي تعطي للحياة معناها الحقيقي، والتي تورثها الأجيال كأغلى كنز يمكن أن ينقله الآباء إلى أبنائهم واحفادهم لمواجهة قسوة العالم.

سيف عامر

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.