الكاتب طه امين يرصد ” اندياح ” سوداني مثير بالدقي ذكره بتداعيات غزو الكويت !!
الكاتب طه امين يرصد ” اندياح ” سوداني مثير بالدقي ذكره بتداعيات غزو الكويت !!
بالامس كنت ضيفا علي ملتقي ثقافي يسمي ” إندياح ” ، وهو تجمع سوداني يعقد للمرة الثانية برغم مرارة الغربة والأسي والقلق علي الوطن من مغبة ان ينهار بسبب اطماع وصراعات الاعدقاء تماما كما عاش اهل الكويت في مصر نحو العام وهم في حالة قلق علي وطنهم اثناء مرحلة صدام حسين وهكذا شعوب اخري !!
إندياح هو نموذج سوداني فريد وبوح شعب وادي النيل او النهرين الابيض والأزرق.. وإن شئت دجلة والفرات ..ضيوف اعزاء يذوبون في الوطن .. ويتقاسمون معنا الخبزة وحبة الدواء وحقنة الانسولين والعلاج !!
إندياح هو عرفان وفضفضة من قامات المجتمع السوداني الواعي المثقف ، كما فسره لي الدكتور ممدوح البنداري امين عام شعبة المبدعين باتحاد المنتجين العرب .. يتحدثون مع بعضهم البعض .. الرأي والرأي الاخر .. وهو فرصة سانحة لمراجعة نمط حياتهم كضيوف واجتماعياتهم وأنشطتهم وأعمالهم في ارض المحروسة تماما مثل السوريين والعراقيين واليمنيين والليبين ، ولكنها مراجعة علي الطريقة السودانية الفريدة .. نظمت هذا الملتقي بنجاح للمرة الثانية في نادي الزراعيين بالدقي صديقتي الشاعرة السودانية ومقدمة البرامج في التليفزيون السوداني ( داليا الياس ) واذكر ان الاول كان في الماسة .
وفي القاعة الرحبة المحيطة بالأشجار الباسقة كان يجلس علي يميني الشاعر المعروف السفير السوداني لدي المغرب ( سليمان الزين ) وهكذا الاديبة الروائية زينب السعيدة وصحبتها من رؤساء تحرير الصحف السودانية ولفيف من رجال الاعمال والادباء وكل البسطاء من اهل السودان الذين جاءوا من كل انحاء المحروسة لحضور هذا الملتقي..
استوقفني في الاندياح هذا الشاب الموهوب ( يس) وهو يتدرب علي ادارة هذاالجمع الحاشد مع المخضرمة التليفزيونية العميقة داليا الياس .. استوقفني بلاغتهما ومخارج ألفاظهما العربية وبداهتهما وحضورهما وخفة ظلهما
كنت ارصد الحضور باذني الضعيفة والاصوات تتناهي علي مسامعي من خلفي واحلل كلامهم وادخر معانيهم لنفسي وهم يجلدون ذاتهم وينتقدون بعض السلوكيات التي تصدر من بعض شبابهم علي ارض الكنانة !! وهم يدركون قيمة مصر وعظمة مصر وشموخ مصر وطيبة اهلها وسماحة شعبها
ولا اعرف كيف وجدت نفسي امامهم وارتجل كلمة ووصفتهم بموضوعية ودون رياء في سياق كلمتي بانهم شأن كل الشعوب او العرب بيننا فهم مثل قصب سكر جنوب الوادي … اي ” السكر الخام ” الذي ذاب فينا بكل عناصره !
ولم اشأ ان اعلق علي رواية صديقتي الاديبة السودانية زينب السعيد التي دشنتها في هذا الملتقي ايضا وهي رواية تحمل عنوان “احلام في بئر يوسف ” وتناهي لمسامعي وهي تتحدث عن النزوح الكبير
اصوات موسيقية من السلم الخماسي السوداني الافريقي المتميز ..
وتحدثت زينب السعيد بحزن بالغ عن ابنها البار الشهيد الطبيب يوسف الذي فقدته .. وعن هذا التيه في رواياتها ورحلة معاناة النازحين الصعبة عبر الحدود المختلفة في تشاد وجنوب السودان والصومال واريتريا واثيوبيا وارض الكنانة في الشمال !
كانت زينب السعيد تتحدث وكأني اشرح شيئ من روايتي ” بنت الدولتلي ” التي تناولت تداعيات غزو الكويت ، وتلك المفارقة العجيبة بين ابنها يوسف الشهيد وابني رامي الذي تلقفته شعاعات النور وانتشلته من هذا الجب اللعين او المصير المجهول في رحلة النزوح برا من الكويت الي ارض الفيروز .. وكيف كان ابني في لحظة سيصبح لطيما في هذا الطوفان البشري ورحلة التيه وتلك الحدود المشتركة بين ايران والعراق والمملكة العربية السعودية وسوريا والاردن !!
يبدو ان قصتها وروايتي يحملان معا اكثر من تفسير مثل متشابهات السور في القرآن العظيم .. وكأني ابدأ منها وانتهي عندها ، فقضايا النزوح الجماعي هي اتحاد عام من المعاناة الانسانية المشتركة لايشعر بها الا من عاش تجربتها بدءا من الكويت ، وصولا الي ارض الامل والفيروز ..والطور وسنين وسيناء الحبيبة ، فقد كان إطعامنا طيلة الطريق الشاق واجبا انسانيا او شفقة وإحسانا وإقامتنا في هذه البلدان غير مرغوب فيها
انت من وين ؟!
هكذا سألني مدير محطة الوقود الاردني حيث لآمال لدي لاغذي سيارتي ، وهو يلمح طفلي رامي بالداخل وفي يده كسرة خبز
قلت له :
انا من البلد الذي سيطل ابد الدهر يستقبل النازحين ليعيشوا فيها بالأحضان دون مخيمات ولا كفيل ، انا من البلد الذي لبَّس اشقاءه عبر التاريخ ، وارسل لهم الكتب والمدرسين والأقلام والمساكين دون مقابل ، ولانعير اهتماما لمن يستفزنا ويعيرنا بفقرنا وجدودنا مدفونين في توابيت من ذهب .. انا من البلد الذي آوي المسيح عليه السلام وتعطر ترابه وهوائه بأنفاسه العطرة وامه التي زرعت فينا الحنان !!
انا من بلد جمال عبد الناصر والعندليب وام كلثوم والحصري والعقاد
قلت له ذلك في روايتي بمنتهي القرف وهو يأخذ مني دبلة زواجي وبعض النقود لاواصل الطريق
ووقرت في نفسي ان بصبح اصبعي للمرة الثانية خاليا ابد الدهر من دبلة الارتباط .. لاصبح محتجا خاليا بلا دبلة زواج حتي الان
كنت حزينا واطعم زوجتي وابني ووقود سيارتي من إعانات المصريين في زرقاء الاردن وبقايا اطعمة النازحين
انها معاناة الحروب وأصداء الطفولة ووجع الغربة وآلام التيه والنزوح الجماعي!!
وتذكرت اعظم حوار وكأنه عقب حمام دافئ بين امي وحفيدها رامي عند عودتنا الي حضن الوطن
سألت امي حفيدها الصغير ابن الاربعة شمعات.. :
قوللي يارامي الكويت احسن ولا مصر ؟!
نظر رامي الي قطعة الشوكولا في يده والي عيون أمي قائلا
مصر ياجدتي
ليه يا رامي ؟!
علشان فيها انتوكانت تلك اجابة ابني .. قد تبدو اجابته بسيطة ولكن في طياتها كل معاني نظرية الفيلسوف سقراط وهو ان الطفل يولد وفي اعماقه كل المعاني واننا نعمل فقط علي يقظتها
، ولابد انني رأيت امي في حالة مضارعة مستمرة من المعاناة ، وهي تتمالك مرضها الصعب وتقاوم صرعها الصامت الذي يهجم عليها بغتة كالمجنون ، وتغالب البكاء المكتوم في اعماقها ، وهي تحضن ابني رامي في صدرها ، فأدركت ان صدر امي هو الوطن بأكمله وانه لا امان الا في دفس رأسك بين النهدين او بين النهرين
وسألت امي قبل ان تروح الي غيبوبتها المزمنة :
ماهو الحب يا أمي فقالت لي :
ان تنام في صدري وانت آمن مطمئن !!
ربما كانت تعبيرات امي وكلام الاديبة زينب السعيد هي تعبير فطري عن الفلسفة الوجودية التي فشلت في تحقق الامن والامان للانسان في كل مكان .. وقلت لنفسي او إندحت معها :،
لو كان العالم في كفّة وأم الدنيا في الكفّة الأخرى لاخترت أم الدنيا .