النظرية النقدية الحديثة بين منازع التأويل ومغامرة المعنى ” مقال نقدى”
النظرية النقدية الحديثةبين منازع التأويل ومغامرة المعنى ” مقال نقدى”
النظرية النقدية الحديثة ..
منذ أن انطلقت بواكير الوعي النقدي الحديث، بدافع تمرده المشروع على سلطة الأنساق التقليدية، راحت النظرية النقدية تتشكل بوصفها سعيًا دائمًا إلى تحرير النص من قيود المصادرة وإطلاقه إلى فضاءات التأويل الخلّاق.
بقلم : د. عمر محفوظ
وإذا كان النقد الكلاسيكي قد استقر طويلًا على مفاهيم المحاكاة والتمثيل والمرآوية، فإن النظرية الحديثة عمدت إلى تفجير هذه البنى الجامدة، معلنةً عن تحول جوهري في طبيعة العلاقة بين النص والقارئ.
لقد أسهمت التيارات الكبرى — من الشكلانية الروسية إلى البنيوية الفرنسية ومن مدرسة فرانكفورت إلى ما بعد البنيوية — في تأسيس حقل نقدي جديد يقوم على تفكيك البداهات وزعزعة اليقينيات. فالنص، وفق هذه التصورات، لم يعد مجرد وعاء للمعنى أو حاملاً لرسالة محددة، بل غدا فضاءً ديناميكيًا يتشكل عبر فعل القراءة ذاته.
في هذا السياق، فرضت النظرية النقدية الحديثة جملة من المبادئ الحاكمة:
أولها أن المعنى ليس معطىً جاهزًا في النص، بل هو نتيجة مفاوضة مستمرة بين النص وقارئه؛ فالعمل الأدبي يتموضع في منطقة التوتر الخلاق بين استراتيجيات الإرسال وآليات الاستقبال.
وثانيها أن اللغة ليست شفافة، بل هي حمّالة طبقات كثيفة من الدلالة والانزياح. ومن ثم، وجب على الناقد أن ينخرط في مغامرة كشفية لاستنطاق البنى العميقة التي تحكم انبثاق الخطاب.
وثالثها أن النقد فعلٌ إبداعي موازٍ للكتابة الأصلية، لا يقل عنها خطرًا ولا مقامرة؛ إذ إن كل قراءة هي كتابة ثانية، وكل تفسير هو وجهٌ من وجوه انبثاق النص.
ولعل من أبرز مظاهر النظرية النقدية الحديثة أنها زعزعت مركزية المؤلف، لصالح إعادة الاعتبار للقارئ والنص، حتى غدت مسألة “موت المؤلف”، كما طرحها رولان بارت، إحدى أيقونات هذه الحركة الفكرية. فالناقد لم يعد يلهث وراء نوايا الكاتب، بل يغوص في نسيج النص، مستخرجًا شبكة العلامات والاختلافات التي تنتج معناه.
وقد أثمرت هذه التصورات النقدية ولادة طائفة من المناهج التطبيقية الخصيبة، مثل النقد التفكيكي مع جاك دريدا، والسيميولوجيا مع جوليا كريستيفا، والتاريخانية الجديدة مع ستيفن غرينبلات، وكلها تسعى إلى إعادة صياغة وظيفة النقد باعتباره جهازًا معرفيًا وتحويليًا.
لكن مع ذلك ينبغي التحذير من مغبة الانسياق الأعمى وراء هوس التفكيك ومراوغة المعنى. إذ إن الموقف النقدي الأصيل يقتضي قدرًا من التوازن بين الحفر النظري والاستبصار الجمالي، بحيث لا ينقلب النقد إلى متاهة من اللغات الذاتية المعطلة عن إنتاج الفهم والتمتع الفني.
إن النظرية النقدية الحديثة، رغم اختلاف توجهاتها وتعدد منابعها، ظلت تصر على مشروعها الكبير: أن تجعل من النقد معبرًا نحو وعي أدق بالذات الإنسانية ومغامرتها في إنتاج المعنى.
وهذا هو التحدي الذي ينبغي للناقد العربي المعاصر أن ينهض لملاقاته، لا بالتقليد السطحي بل بإبداع صياغة نقدية متأصلة في ثقافته ومفتوحة على آفاق التجربة الإنسانية بأسرها.