بين أروقة الحياة

كتبت: أسماء عيسوي

 

قال أسامة بن منقذ:

إن فاجأتك الليالي بما يسوء فصبرا
والدهر يرهق عسرًا ويتبع العسر يسرا
لو دام ما ساء منه لدام ما كان سرَّا
اليوم هو موعدنا مع الطبيب الجديد، علينا تجهيز التقارير الطبية والفحوصات الأخيرة لأخذها إليه،

هكذا أخبرتني أختي الكبيرة وبالفعل قمنا بتجهيزها وذهبنا على الموعد المحدد.

ذهبنا وكلنا أمل في إيجاد فرصة للعلاج ولو كلفنا الأمر فوق ما لا نطيقه فسوف نفعل المستحيل من أجل والدتنا.

في البداية أخبرت العامل أني من طرف دكتور فلان وهو من أرسلني إلى هنا وقد تحدث معكم ودفعت ثمن الكشف،

ودفعت للعامل حتى لا يعطينا وقتًا آخر غير هذا اليوم وبالفعل تم تأكيد الحجز وأخذنا دورنا وكان الأخير بعد المنتظرين بالصالة.

وفي الحقيقة لم يكن بالصالة غير عدد قليل فجلسنا ننتظر دورنا،

فلمحت سيدة عجوزًا قد بلغت من العمر أرذله لكنها كانت تمتلك وجهًا طفوليًا بريئًا،
كانت بشوشة وتنظر إلى المنتظرين وهي مبتسمة، وتلقي بالتحيات علينا وتهز برأسها إعجابًا،

وكانت بجوارها ابنتها ذات الستين عامًا ونيف،

كانت تربت بحنوٍ شديد على يد والدتها ولم تتذمر من تصرفات والدتها -غير المبررة-

بل أخذت تنظر إلينا بابتسامة ملؤها الحب والرحمة.

وعندما جاء دورها أمسكتها من يدها وأخذت تمشي بها خطوة خطوة بحذر بالغ وحرص شديد

وهنا تذكرت جملة جدتي لأمي “يا مكبرنا يا مصغرنا”، حقًا كأنها طفل حديث العهد بالمشي

تمشي على حذر إلى أن دخلت الغرفة المخصصة للكشف وأخذت أنظر في باقي المنتظرين،

كنت أحسب موعدنا للقاء الطبيب وإذ بكلٍ يهيمُ في واديه يبدو عليهم أنهم معتادون على الوضع

كنا أنا وأختي فقط حديثتي عهد بهذه الأمور، خرجت العجوز وهي مبتسمة تلوح لنا مع السلامة

وهي في قمة السعادة والسلام في الحقيقة لقد تركت المكان كله يشع بالبهجة والأمل،

وكان هذا هو البصيص الذي نترقبه. لقد زادتنا حماسًا للقاء الطبيب وجاء دور الحالة الثانية

كانت اِمرأة شابة في عقدها الثالث معها ابنتها ذات العشر سنوات وزوجها،

وبدا على ملامحها القلق والخوف حتى أن الملف الذي كانت تحمله سقط أرضًا مرتين

والعجيب أن الزوجة ذهبت إلى غرفة الفحص مع ابنتها فقط وظل الزوج منتظرًا معنا ولم يبدُ على وجهه أي تعبير يُفسر،
وبعد فترة خرجت الشابة ومعها ابنتها وأخذت تحدث الزوج بكلام وكأن الأمر مستقر وما من جديد يدعو للقلق.

لم يعد يوجد في العيادة أحد غيرنا ومجموعة رجال يبدو من هيئتهم أنهم قرويون وهمَّ واحد منهم بالدخول

فحمل حقيبته الجلدية ودخل غرفة الفحص وبعد حوالي خمس دقائق خرج ولم ينبس ببنت شفة فقط نظر إليهم أن
هيَّا بنا لقد قُضي الأمر وما من أمل وكأنهم كانوا يعرفون النتيجة مسبقًا فقط أرادوا التأكد من الأمر.

خرجوا بعد أن تركوا المكان منطفئًا من النور الذي كان يملؤه ويغمرنا بالأمل وحان دورنا فذهبنا لغرفة الفحص،

طرقنا الباب ودلفنا وإذا بالطبيب ينظر إليَّ ويرحب بنا بحفاوة بالغة دُهشنا من أجلها

فهذه هي المرة الأولى التي نراه بها فنظر إلى الورقة التي أمامه ثم نظر إليَّ ثم قال أهلا أهلا مدام “نادية”

أنتِ كشفتِ عندي من قبل أليس كذلك؟ فأجبناه في صوت واحد كلا هذه هي المرة الأولى التي نأتي فيها إلى هنا

غير أن والدتنا هي المريضة وقد جئنا نستوضح لحالتها ولم نأتِ بها لأننا كتمنا عنها نوع مرضها حرصًا عليها

فاعتذر لنا على سوء الفهم وأجلسنا وأخذ ينظر في التقارير والفحوصات ويتحقق منها ومن ثم أخذ يسألنا

منذ متى وهي تشكو الألم؟ وكيف لم يظهر عليها أي أعراض للمرض من قبل؟

وتعجب جدًا لأمرها وأخبرنا بكل صدق أن الحالة يتبقى لها أشهر معدودات إن لم يكن أيامًا

وللأسف هذا النوع من الأورام غير تخصصه فأراد أن يُحلل المبلغ وقدره الذي أخذه دون فائدة

فكتب لنا توصية لدكتور زميله متخصص في هذا النوع المستوحش من الأورام بالرئة والجهاز التنفسي

وأكد لنا ضرورة التعجيل بالذهاب له وأنه بفضل هذه التوصية سوف ندخل فورًا دون أسبقية حجز

علمًا بأن الكشف عند هذا الدكتور بالحجز المسبق بثلاثة أشهر على الأقل وبالفعل ذهبنا إليه

وأخبرنا أن لا مرد لقضاء الله وأن علينا أن نتعامل معها بالرحمة فلا داعي لكيماوي ولا غيره من المثبطات

فقط نعطيها مسكنات تصرف بأمر الطبيب.
خرجنا وقد انهمرت أعيننا تذرف الدموع والحبيبة بالبيت تنتظر جواب الطبيب تتصل بنا لتطمئن

فأخبرناها أن الحمد لله رب العالمين، سوف تتحسنين بأخذ العلاج وما من سوء بإذن الله

فاستعجلت حضورنا فأخبرنا أننا بالطريق إليها والعجيب أن الجو قد تغير في لحظة وسادت عاصفة رملية

حجبت الرؤية فأخذنا نبكي ونبكي ونقول حتى الكون يشاطرنا الحزن عليكِ ياحبيبة

اللهم رحماك ليس لنا سواك وفجأة نزل الغيث وتبدل الجو فتفاءلنا ودعونا الله أن يغيث قلوبنا ويشفي أمنا وأمننا

اللهم أمي وأنت أرحم الراحمين ورجعنا إليها بكل حُب وخوف على فقدها وأخذت تضمنا بعيونها بكل شوق ولهفة

وتقبلنا بكلامها المعسول وابتسامتها الحانية.وازددْنا إصرارًا على البحث عن علاج مناسب لحالتها

فلم نستطع أن نستسلم لكلام الأطباء.

كنا نبحث عن أملٍ ولو صغير نتمسك به لإنقاذ والدتنا من براثن ذاك المرض اللعين الفتَّاك.

نريدها أن تبقى بيننا آمنة متعافية لكنه القدر يأتي بما لا نتوقعُ فزادنا من الأمر عِلة أنها امتنعت عن تناول الطعام

وفقدت شهيتها من كل شيء إلا من الماء المثلج فساعدناها بالمحاليل الطبية حتى لا يضعف جسدها

أردنا أن نراها متماسكة صامدة كعادتنا بها لكنها كانت تعلم أنها النهاية وأنها مسألة وقت وسيسترد الله أمانته

فاستسلمت لأمر الله وقالت آمنت بالقدر خيره وشره وأوصتنا بالحبِّ وألا نفرط في بعضنا البعض مهما صار

وأنها ستتركتنا في أمان الله ورعايته وقالت اللهم إني تركت أبنائي في ودائعك فاحفظهم بحفظك يارحمن

فبكينا وأخبرناها أنها سوف تتحسن وتكون بخير فلِمَ هذا الكلام ؟! فأجابت كلّا لقد حان الوقت

فبكيت واحتضنتها فضمتني ضمة حب لن أنساها ماحييت.

أمي الحبيبة صدقت ماعاهدت ربها ورسوله عليه فامتثلت لأوامره وتجنبت نواهيه

ويشهد الله أن لسان أمي ظل رطبًا بذكر الله حتى لحظاتها الأخيرة أي أمٍ أنتِ حتى في ظل الغيبوبة

التي فارقتِ فيها وعيك ظل لسانك يردد على مرأى ومسمع من الحضور لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين،

قرابة الساعتين وأكثر كنا نكبر لما رأينا ونبكي لا نعرف أن نفرح لكِ ام نبكي لخسارتك؟!

وظل لسانك يرددها حتى استعدتِ وعيك من جديد ونظرتِ إلينا فجلسنا أسفل قدمك نقبلها ونقبل يدكِ

حامدين الله على عودتك لنا من جديد كان كل شيء فيكِ جميلا فكان الجمال ينبع منكِ ويشع علينا فيعجب الزائرون منَّا ومنك. أمي الغالية التي وهبت حياتها لله فكانت نعم الابنة ونعم الأخت ونعم الزوجة ونعم الأم

ونعم الجارة المجيرة والصديقة الصدوقة أخلصت عملها فأحسن الله خاتمتها ورحمها ونحسبها عند الله من الشهداء

فاللهم اجعل لنا أثرا طيبا ترضاه لنا ويرضيك عنا وأحسن خاتمتنا وألحقنا بعبادك الصالحين يا رحيم

يقول الإمام الشافعي:

ومن نزلت بساحته المنايا فلا أرض تقيه ولاسماءُ
وأرض الله واسعة ولكن إذا نزل القضا ضاق الفضاءُ
دع الأيام تغدر كل حين ولا يغني عن الموت الدواءُ
رحمك الله يا أغلى وأعظم أم يا أمي.

 

….

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.