حذر و قدر

الكاتبة: رنا زين

أن تخشى شيئاً كثيراً للدرجة التى تجعله يخيم على أفكارك كهاجس لا تستطيع الفرار منه ،
فهنا حقاً يصبح الخوف منه مرضاً يجب أن تشفى منه أولاً ، هكذا كان حالي منذ عشر سنوات مضت ،
منذ أن اختطف المرض أحبائي من حولي فبدأ بجدي طيب القلب ثم والدي العزيز ،
رأيت المرض يلتهم قوتهم ويسلبهم راحة البدن والقلب ، فجدي كان مقيماً معنا بالمنزل ،
ومازلت أتذكر آلامه ومعاناته رغم صغر سني وقتها ،
ثم من بعده بسنوات قليلة بدأ أبي رحلة معاناة جديدة مع نفس المرض ،
كنت بجانبهم وهم يتألمون ويحاولون إخفاء آلامهم القاسية كلما وجدوا عيناي غارقتان في الدموع لأجلهم ،
لحظات لا تُنسى من ذاكرتي أبداً.
واليوم فاجأني القدر بما لم استطع الفرار منه ، إنه نفس المرض الذى اقتحم حياة عائلتي
وانتزع منها من كانوا لي مصدراً للأمان والاحتواء ، لم يتبق من عائلتنا الصغيرة سوى أنا وأمي ،
فاجأنى القدر به دون أن يُمهِد لي قدومه بأي إشارة ، أعراضه الأولى كانت مفاجئة وقاسية جداً ،
فكنت قد استيقظت باكراً كعادتي ، وبعد مشروب الصباح الدافئ أمسكتُ بدفتر خواطري اليومية
وبدأتُ أدون فيه ما يجول بخاطري ، فالصباح الباكر بهدوئه وصفاء أجوائه يظل توقيتي المفضل في الكتابة ،
وخلال لحظات وبينما بقلمي أسطر كلماتي على الورق ، شعرتُ بألماً يمزق رأسي ،
لم يكن صداعاً عادياً إنما ألما شديداً لا يُحتمَل ، فتوقفتُ عن الكتابة وانتابني إحساساً بالخوف والقلق تملك قلبي
 فقد وقع ما كنت أخشاه واخترق المرض بدني وحياتي.
فكرتُ كثيراً كيف أخبر أمي بمرضي؟ ، كيف أخبرها أنها على أعتاب رحلة جديدة من الألم والمعاناة ؟ ،
ولكنها هذه المرة أصابت قطعة منها ، ابنتها الوحيدة ، التي مازالت في مقتبل عمرها ،
والتي احتفلت معها بتخرجها منذ أيامٍ قليلة ، والتي تجدها دوماً إلى جانبها سنداً يرعاها ويحميها
وقلباً يحتويها ويؤنس وحدتها.
لم استطع إخبارها فور معرفتي بنتيجة التحاليل وتأكدي من الإصابة بالمرض ،
ولكني قضيت اليوم بأكمله بالبيت في نومٍ عميق ، كلما استفيق أعاود النوم من جديد ،
وكأننى أجد فيه مفراً من الواقع وأتجنب به الحديث مع والدتي التى اعتادت من نظرة عين لي أن تفهمني
وتقرأني دون أن أنطق بكلمة ، وعلى هذا الحال قضيت اليوم بأكمله فى ساعات متواصلة من النوم
حتى استيقظتُ في وقتٍ متأخرٍ من الليل ، وكان البيت هادئاً جداً ، فقد نامت والدتي قبل منتصف الليل كعادتها ،
فجلستُ أفكر وأتساءلُ في نفسي : ” متى أخبر أمي ؟ وكيف ؟ ” ، هذا أكثر ما أكرهه في المرض ،
أن تكون ألماً لمن يحبونك دون أن تقصد ذلك.
وبعد أن فكرتُ ملياً قررتُ أن أخبر أمي في الصباح ، فإني أترفقُ بها أن تنام على حزنٍ هذه الليلة
فيكفيها ما ستعانيه معي في الأيام المقبلة.
أطرقتُ باب غرفتها بلطفٍ فأذنت لي بالدخول قائلةً بصوتها الهادئ : ” تفضلي يا ابنتي فقد كنتُ في انتظارك ” ،
فدخلتُ بخطواتٍ متمهلة ، وكادت دموعي تنهمر حين فتحت ذراعيها لتضمني إليها كما اعتدنا كل صباحٍ ،
فأسرعتُ إليها وارتميتُ بين ذراعيها ، فقد كنتُ أحتاج حقاً لاحتوائها وحنانها الدافق هذا ،
بين يديها هدأ قلبي النابض بخوفٍ بين ضلوعي ، ثم اعتدلتُ في جلستي وأمسكتُ بيدها
وأنا أبادلها نظراتها الحانية المطمئنة وقلت لها : ” أمي ، قال لي أبي يوماً ” كونى قوية دائماً ،
حتى في أصعب المواقف وأشدها ألماً ، قوتك التى ستنبع من قلبك ستجعلك قادرة على مواصلة الحياة
والصبر على أحزانها ، وكونى على يقين أن الحياة لن تدوم يوماً على حال ، هل مازلت تذكرين كلماته تلك؟
فقد اعتاد قولها لي كثيرا منذ صغري” ، فقالت وهى تضم يدي بيدها : ” نعم مازلتُ أذكر كلماته كلها ،
كأن حديثهُ كان بالأمسِ ولم يمر عليه كل تلك السنوات ، ولكن لما تتذكرينها الآن ؟ ” ،
وبدون أن أتفوه بأي كلمة تساقطت دموعي بغزارة على وجهي ، ثم قلت لها : ” لدي شئ أود أن أُخبرك به ،
لقد تأكدتُ من إصابتي بنفس المرض الذى أصاب جدى ووالدي رحمهما الله ” ،
فاتسعت عينيها في دهشةٍ وصدمة واغرورقت بالدموع وضمتني إليها وصوت بكائها كان يختلج قلبي معه.
ومضت أيام التداوي والمعاناة ، حتى جاء اليوم المنتظر ، فخلال ساعات قليلة كانت ستُرسِل لي المشفى
عبر بريدي الالكتروني نتائج التحاليل النهائية ، وعلى مدار نحو ثلاث ساعات تقريباً كنت قد تفقدتُ
بريدي عشرات المرات حتى أرهقني ملل الانتظار ، فحاولتُ الاسترخاء قليلاً لعل الوقت يمضي أسرع خلال نومي ،
فجلستُ على مقعداً مريحاً بغرفتي تواجهه نافذة صغيرة لكنها كانت مغلقة ،
ففتحت النوافذ الخشب الخارجية حتى يتسلل إلى الغرفة ضوء النهار الممتزج بخيوط ذهبية لشمس الشتاء الدافئة ،
وأغلقتُ النوافذ الزجاجية فلم أكن احتمل أي ضوضاءٍ تصدر من الطريق وسياراته ، فضوضاء أفكاري كانت تكفيني ،
وعدت لمقعدي وحاولت الاسترخاء من جديد ورفعتُ عيني للنافذة أتأمل السماء بصفائها واتساعها ،
وبصوتٍ هادئ تتخلله الدموع ، دعوتُ ربي ” يا منجي من كل ضيقٍ يصيب الروح ويوهن القلب ، أرجوك ،
بقدر اتساع السماء ارزقني راحة تمحو ضيقَ نفسي ، وامنحني صبراً وأملاً يعيدا الطمـأنينة لقلبي.”
ومع تلك المناجاة سكن قلبي وهدأت روحي فعفوتُ قليلاً ، واستيقظت بفزع على رنين هاتفي ،
فقد كنت وضعتُ نغمة حادة الصوت للتنبيه بوصول أي رسالة لهاتفي لأتمكن من معرفة نتيجة التحليل فور وصولها
مهما كان الهاتف بعيداً عني ، فأمسكتُ الهاتف وقلبي يضطرب كموجِ بحرٍ تتقلبُ به العواصف ، وقرأتُ الرسالة ،
فكانت هى الرسالة المنتظرة من المشفى ، وخلال لحظاتٍ من قراءتها تساقطت دموعي وانسابت بلطفٍ على وجهي ،
فهى ليست دموع مؤلمة ، لكنها دموع الفرحة التى طال انتظارها ، حمداً لله لقد تعافيتُ تماماً من ذلك المرض وآلامه ،
الآن سأعود للحياة من جديد ، ولكنها ستكون حياة هادئة لا تشوبها نوبات قلق وخوف مستمر ،
فلم يمنعني كل ذلك القلق من قدرٍ كان محتماً علي أن أعيشه ، والآن تعلمت من تلك التجربة
أن أعيش كل لحظةٍ بالحياة دون أن أفكر فيما ستأتيني به الأقدار يوماً ، فهكذا هى الحياة ،
ما بين السعادةِ والشقاء ، ولم تَدُم يوماً على حال.
….
قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.