تتداخل علاقة الشعر بالوهم تداخلا حميما،إذ لا يمكن للشعر أن يقيم إلا في منزل الوهم،
ولا يمكن للوهم إلا أن يحتوي الشعر،ويقدم له كل الرعاية الأبوية والأمومية معا،
على النحو الذي يصنع بينهما ألفة لا يمكن محوها أو التفريط بها مهما كانت الأسباب،
فالشعر متخيل رحب أوسع من الأفق ولا حدود لتجلياته وتحليقاته وانفتاحاته القصوى،
وهو ما لا يمكن احتواؤه إلا في دائرة مهشمة الحدود تسمى” الوهم”،بوصفه المساحة الأكثر انفتاحا
لتقبل تموجات اللغة وصداماتها وتفاعلاتها وتمظهراتها وتدفقاتها الباحثة عن مصير نحو الوصول
إلى مرحلة بناء القصيدة وتكوينها وتشكيلها وتشييد عمارتها.
وتيمة الفقد
هي التيمة الأكثر حضورا وتجليا في ديوان” أحبك ولكن” للشاعرة السعودية خلود العلوي ،
فدال الفقد بتمظهراته المتنوعة والمختلفة والمتعددة يسري في جسد لغة خلود العلوي
كما تسري النار في الهشيم ،ويكلل قصائدها بنور أسود كثيف ولزج يستحيل تفادي إزعاجه وترويعه
مهما أحيطت القراءة بحراسة مشددة تمنع تأثيره عن القاريء فتقول:
” استمعت لحديثك في المقهى/ الذي شهد جدالنا / أحزاننا / أفراحنا / في ذلك الحين /
شعرت بأن جميع ما حولي توقف/ حتى الأرض توقفت عن الدوران”.
دال الفقد هو دال طواف وباحث وأصيل في شعر خلود العلوي لا يكل ولا يتوقف ولا يستقر ولا يكتمل.
تهيأ لك أني أسمعك / بينما الصمم أصاب أذني / قلبي كاد يخترق أضلعي/ دون إرادة مني “.
عتبة الاستهلال في قصيدة” سيدي العاشق” قد سحبت عتبة العنونة إلى منطقتها التي تضمنت
الحكاية الأصل التي تسعى القصيدة إلى ضخ مفاصلها في أرجاء القصيدة ،
فخطاب الراوي الذاتي الشعري يهيمن على الحكاية ويرويها،رواية ذاتية تنقلب بين النشوى والفجيعة،
الأمل والوهم،الحلم الجميل والواقع المر،في صيغة حوارية ظاهرها التوجه بالخطاب نحو الآخر” الحبيب”
لكن باطنه حوار ذاتي أشبه بنشيج قاس تتجلى الذات الراوية في التغني به على نحو مأساوي
فتقول:” لم يعد لديك خيار سيدي العاشق / فبابك موصود / وطريقك مسدود / وكل طريق هو ألغام / إلا الطريق إلى الله”.
ويتمظهر خطاب عتبة الاستهلال بصيغة سرد- درامية
يحضر فيها السرد والوصف والمشهدية والعرض الفيلمي،وذلك للارتفاع بجوهر الحكاية إلى
مقام شعري بالغ الكثافة والتبئير والكشف والتكامل السردي والدرامي ،
وصولا إلى كينونة تعبيرية وتشكيلية تتعدى الوظيفة الاستهلالية التقليدية،,
هي تجتهد في الإبلاغ والتوصيل وتفعيل الحراك الشعري من عتبة العنونة إلى طبقات المتن.
لست أدرى/ من منا المتألم / عندما تتألم / أكان عساه قلبك أم قلبي / ولكني أعلم أني أتقاسم معك/
نصف الألم / نصف الشعور/ نصف القلب / قلبي وقلبك واحد/ كم تمنيت أن أنتزع منك/ كل ألم يكدر صفو حياتك”.
غير أن الطبيعة السردية” الحكائية” للكلام الشعري هنا تتطلب التفصيل وفتح الحكاية على طبقاتها
التي لا تكتفي بالعنوان الذي يشبه المانشيت الصحفي وهو يؤدي الوظيفة الانتباهية والإغرائية،
بل تدفع المتلقي إلى البحث عن المزيد من التفصيل لإشباع التطلع السردي والفضول الحكائي،
إذ يتنكب الراوي الشعري الذاتي واستعراض الطبقات السردية طبقة طبقة بحسب تسلسل
مجريات الحكاية المرتبط بجملة سرد شعرية تمثل لحظة تنوير مركزي فيها” قلبي وقلبك واحد”
ثم ما يلبث العرض السردي المتداخل والمتشابك والمشبع بالتصوير والتمثيل وتجسيد الفاعلية الأنوية
للذات الشاعرة بأوسع وأكثف وأعمق ما يستوعبه الفضاء الشعري الاستهلالي،
بطريقة يتعاضد فيها الأسى بالانفعال،والتطلع الجميل بالخيبة المريرة،,حرفة الصورة بآلية التصوير،
وتمازج وتعالق الشعر بالدراما بالسرد بالتشكيل بالعرض السينمائي وصولا إلى النتيجة الفجائعية
في أقصى بلوغها المأساوي ” ماذا لو كل ما نتمناه ندركه؟
/ ربما يشفى ذلك القلب/ تزهر أمانيه/ ينبض كما لوكان قلب طفل / أراد أن يحب”.
ثمة كثافة هائلة في التعبير السردي،والتمثيل الدرامي ،والتشكيل الشعري الصوري.
فالمشهد مكتظ بصور الذاكرة ،وهي تختلط بالحلم ،وبصور النداء المر وهي تختلط بالأمنيات المجهضة
فتقول:” حتى أصبح سؤالي الدائم/ أتشعر بما أشعر به؟ / فوضى مشاعر / حواس / ونبض /
يسرقني الزمن منك/ وأسرق منه نظرتي إليك / وما بيننا يبقى لطرفين/ أحدهما يعلم / والآخر دون علم “.
تبدو الذات الشاعرة وكأنها تطوف في حلم جميل تعيشه بعمق يقربه كثيرا من الحقيقة،
حقيقة الوهم وقد تصدعت فيه الذات وتشظت واتسعت جروحها حتى بلغت جوهر الروح .
صبرت كثيرا/ حتى أدماني الشوق/ كابرت كثيرا/ حتى دمعت عيناي
/ لا أعلم / بأي أرض أنت / ولا أعلم أي ذاكرة عندك/ تحمل في ثناياها بعضي / ولكني أعلم أني لم أعد هناك حيثما كنت”.
فكل صورة من صور المشهد تعزف لحنها الشعري بقوة الحلم والتمني،غير أنها تنتهي إلى مجرد نشيج قاس.
فالقصيدة عند خلود العلوي تقدم بهجة الوهم محاصرة بمرارة الحقيقة التي تختفي في منطقة ما خلفها،
بما يعكس طاقة شعرية خلاقة على دمج الأبيض والأسود،الفرح والحزن،الأنا والآخر،وجهي الصورة الأمامي والخلفي،
في صياغة شعرية واحدة تفرض على المتلقي قراءة مزدوجة تستعين بالثقافي لفك شفرة الجمالي.