صحيفة مجهولة حاربت الخمور..تاريخ من النضال
صحيفة مجهولة حاربت الخمور..تاريخ من النضال
تعانى معظم الشعوب العربية والشرق الاوسط من الازدواجية، خاصة فى فكرة الحكم على الأشياء، وأن العادات والتقاليد هى العامل الاساسى والرئيسى الذى على أساسه يكون الحكم على الشىء باسلب أو بالإيجاب والسبب يرجع للتربية الخاطئة، وفرض الكثير من المحظورات الشديدة والصعبة.
مما يجعل الفرد متشبثاً بهذه المحظورات ويقوم بفرضها على غيره، فى حين انه لايستطيع تطبيقها على نفسه”. , وفى هذا الاطار تضررت مصر من سياسة الازدواجية التي اتبعتها فيما يتعلق بتعاطي الخمور.
وفي عصر الاحتلال البريطاني، والعصر الذي كان قبله من سيطرة القناصل أيضا، إذ نجم عن ذلك انتشار جرائم بعينها مثل السرقة والقتل، وغيرها من الجرائم المجتمعية.
التي باتت تقلق الحكومة المصرية، وترهب باقي أطياف المجتمع، الذين ليس لهم أدنى علاقة بتعاطي الخمور .
حيث تم رصد ما يقرب من أربعمائة جريمة وقعت على أرض مصر من الأجانب والمصريين، على حد سواء.
انتشار الظاهرة
وقد ناقشت رسالة الدكتوراه في جامعة القاهرة للباحثة زينب محمود البكري بعنوان “الأنبذة والمشروبات الروحية في مصر في القرن التاسع عشر تحليل تاريخي للإبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية لانتشار الظاهرة”.
مؤكدة على أن المشروبات معروفة من الفعل الثلاثي شرب للماء وغيرها، ويقابلها التعاطي، وان اختلف المعنى اللغوي لها، أما كلمة “الروحية” فهي مشتقة من الفعل الثلاثي راح، راحة، روح، أي كل شئ فيه روح، والراح يعنى الخمر.
المشروبات الروحية
وقد ارتبط ذلك بصفة الروحانية وهى خاصية لكل ما هو روحي وليس لما هو مادي ,ودون الخوض في مزيد من التفاصيل حول اصطلاح الروحية في العلوم الاجتماعية، يمكننا إن نضع مفهومًا مُبسطًا للقراء عن المشروبات الروحية بأنها أي مادة من شانها أن تذهب العقل سواء كانت من الكحوليات أو الأنبذة وما شابهها.
عالم آخر
كما يرجع المصطلح إلي فترة القرون المظلمة في أوروبا، حيث أعتاد الأوربيون علي تسمية المشروبات الروحية لاعتقادهم بأنها تساعدهم علي التواصل مع الأرواح، وانتقل المسمى إلي أمريكا الشمالية؛ لذا يعتقد من يشربونها إنهم في عالم آخر غير الذي يعيشون فيه.
رواج تجارة الخمور
كما وضحت الباحثة زينب البكري أن الظاهرة بدأت في الحقبة العثمانية التي لوحظ فيها وجود تسهيلات تجارية منحتها الدولة العثمانية للجاليات الأجنبية منذ القرن السادس عشر، وقد كان ذلك مقرونًا بسماحها لهم بالتواجد علي الثغور أيضا عن طريق إنشاء الوكالات التجارية، لقد كان ذلك عاملاً مساعدًا في رواج تجارة الخمور، وسهل عمليات الاستيراد التي يقوم بها الأجانب خاصة الفرنسيين، الذين تمنعوا بتسهيلات تجارية.
سياسة العثمانيين
كانت سياسة العثمانيين في مصر قائمة على تحقيق الربح من إنتاج الخمر وشربه، ومن ناحية أخرى، آثروا أن لا يظهروا بمظهر المتساهل في إقامة مبادئ الشريعة الإسلامية، وفى الوقت نفسه حاولوا إرضاء موظفيهم في الولايات المختلفة الذين ينتفعون من الضرائب على أماكن تعاطي الخمور.
كما تغاضت الدولة العثمانية في أحيان كثيرة عن محاربة صناعة الخمور ما لم تكن علنية فجة, ولم تمنع الممارسات التجارية المحلية بل شجعتها، وكذلك الصناعة طالما أن ذلك يساعد في دعم النظام التقليدي، وفى ضوء ذلك يمكنا تفسير السماح لليهود وغيرهم بصناعة الخمور وتجارتها .
صناعة الخمور وتجارتها
أتجه اليهود الى صناعة النبيذ وإنتاج حتى يتجنبوا احتساء النبيذ الذي ينتجه المسيحيون، وكان بعض المسلمين يتوجهون إلى الحانات اليهودية لتناول النبيذ.
وتذكر المصادر اليهودية التي يرجع تاريخها إلى القرن السادس عشر، شواهد على تجارة اليهود، كما وجدت معاملات مع اليهود الشوام، كما خضع قطاع الخمور لمنظومة ضريبية معلومة تسمى مقاطعة الخمور التي كانت تُدار بنظام الالتزام، وقد نجح العثمانيون بموجبها في جباية الضرائب منها.
محمد على باشا
واستمر محمد على باشا على نفس النهج “العثماني”، وكانت الدولة العثمانية حريصة اشد الحرص علي أن يلتزم بسياستها، إذ أرسلت إليه في عام ١٨١٠ مرسومًا عُرف بمرسوم “الزجرية” يتضمن عقوبات لمن يجرؤ من المسلمين علي تعاطي الخمور أو الاتجار فيها مع الالتزام بإباحة الخمور للأجانب وتعاطيها، بل والبيع والشراء فيها على أرض مصر، ولكن تم ذلك في إطار ضوابط معينة.
اماكن الخمارات
أهمها أن تكون الخمارات في المناطق السكينة التي لا يقطنها المسلمون ,ومن ناحية أخرى، استمر في تقييد حرية المسلمين في التعاطي، وبالرغم من نجاحه في فرض هذه الضوابط، إلا أنه لم يكن بوسعه التحكم في مسار “التفاعل الاجتماعي” بين المصريين والأجانب، حتى إذا ما تبدلت المعطيات الاقتصادية خاصة في عهد الخديو إسماعيل.
حيث زاد معدل وفود الأجانب من ناحية، واستفحلت خطورة الامتيازات الأجنبية من ناحية أخرى حتى انتشرت محلات بيع الخمور المملوكة للأجانب كالنار في الهشيم.
تقنين بيع الخمور فى مصر
وبعد مرور تسعة أعوام من مجئ الاحتلال البريطاني، تحديداً في عام ١٨٩١ تم تقنين بيع الخمور رسمياً في مصر، وإباحة بيع الخمور رسمياً في مصر، وانتشرت الشركات الأجنبية التي تقوم بتصنيع الخمور.
ومن ثم كانت الخمور السبب الرئيسى في انتشار الجرائم التي تقع ببيوت البغاء، فكان من السهولة بمكان عقب السكر أن تقع جريمة قتل أو سرقة أو اعتداء جنسي أو حتى انتحار ، دون دفع المقابل المادي المتفق عليه، وبالمثل باقي الجرائم المجتمعية.
المعارضة القوية
وقد برزت معارضة قوية من قِبل الرأي العام، والمثقفين، فكانت جريدة “المؤيد” هي خط الدفاع الأول ضد التغلغل القوى لإعلانات الخمور التي تولت رعايتها جريدة المقطم، وشنت حرباً لا هوادة فيها ,وسار في هذا الجانب عبد الله النديم الذي أخذ على عاتقه محاربة تجارة الخمور بشكل علني وصريح.
السُكارى
حتى أنه أنشأ جريدة تُسمى جريدة “السُكارى”، لكنها للأسف لم تصل إلينا، ولكن جريدته “التنكيت والتبكيت” حفظت نضاله الفكري ضد الخمور، أملاً في ذلك أن يصدر قانون رسمي بمنعها في مصر.
ولما أخفقت الثورة العرابية في العام 1882م وتم نفيه، وأصدر جريدة “الأستاذ” التي سارت على خطى “التنكيت والتبكيت”، ولكنها اتخذت مواجهة أكثر حدة، فكانت مقالاته وتحديداً عن الخمور تدوي بصوتها في مصر.
حتى أن محاورته الأدبية “بين حنيفة وحفيظة” التي تتناول التأثير السلبي للخمور على المجتمع المصري، قد نالت شهرة كبيرة، دفعته إلى أن يقوم بإعادة وضع ما يُسمى الآن بمعالجة درامية لها، وبلغ صدى “الأستاذ” بصفة عامة.
أن الإنجليز اعتبروها تثير التعصب الديني، فصدر أمر بنفي النديم مرة أخرى إلى الآستانة، لينشر آخر عدد من “الأستاذ” في العام 1893م، ليتوفّى النديم في العام التالي.
مؤتمر منع المسكرات
وفى الفترة من 1894م إلى مطلع القرن العشرين، لم تظهر اتجاهات مناوئة لانتشار الخمور، باستثناء جريدة المؤيد، حتى طرأت ظروف دولية، منها مؤتمر منع المسكرات، الذي أقيم في فيينا، وأجواء مناقشات قانون فولتسيد.
وذلك لفرض حظر على الخمور داخل الخمور فى الولايات المتحدة الأمريكية، اللذان ساعدا أحمد أفندى غلوش، على أن ينشئ أول جمعية منع المسكرات في مصر في العام 1923م.