التيجانية طريقة وطريق!
في أحد أحياء إمبابة بالقاهرة، تجسدت قصة مريبة تجمع بين الدروشة والاحتيال، حيث قامت عائلة مهووسة بالصوفيه، بتسليم ابنتهم لمجذوب شهير لقبه “التيجاني”، نسبة إلى المتصوف الجزائري الشهير أبو العباس التيجاني. تلك الطريقة التي تم تأسيسها في اواخر القرن الثامن عشر، تحولت مع الزمن إلى ما يشبه اللعنة التي تصيب كل من يقترب منها، فتجعلهم يظنون أنهم اقتربوا من الأصوات الخفية وكشف الأسرار العليا، معتقدين أنهم مختارون من الإله.
لكن المفاجأة؛ أن هذا الشيخ المصري الذي اشتهر بين أتباعه بظاهرة الزاهد المتصوف، خرجت حوله العديد من الشكاوى، حيث أتّهم بالتحرش عدة مرات، وخاصةً بالصغار، وعلى الرغم من الفضائح التي طالته؛ إلا أنه مازال مستمرًا في ممارساته بفضل أتباعه الذين يرونه إلهًا لا يخطئ، هؤلاء الأتباع؛ غالبيتهم من النساء الذين غيروا أسماء عائلاتهم علي موقع “فيسبوك” وأضافوا “التيجاني” كلقب لهم وكنوع من التمييز والانتماء، تمامًا مثلما فعلت العديد من الجماعات عبر التاريخ!
هذا الشيخ، الذي طُرد من الأزهر ومن نقابة الطرق الصوفية، استغل ذكاءه وشخصيته في كسب عدد من الأتباع، خاصة الأثرياء؛ ليؤسس لنفسه مقامًا يحج إليه أتباعه، هذا المقام والذي عادةً ما يتم إنشاؤه بعد وفاة الشخص تكريمًا له، لم ينتظر الشيخ حتى يموت ليُبنى له، بل قام بإنشائه بنفسه مع كل طقوس المولد والأغرب أنه أحاط مقامه بالأشجار والخضرة، ليضيف لمسة روحانية درامية تشبه ديكور السينما، فتأخذك الأجواء حتى تعتقد أن المشهد حقيقي وتبكي تأثرًا.
الدروشه والإحتيال بين الماضي والحاضر:
الغريب أن هذه الأحداث ليست جديدة، فقد تكررت في عصور ومعتقدات مختلفة. في المسيحية، على سبيل المثال، نجد جماعة (الكاثاريين) في العصور الوسطى، الذين اعتُبروا هراطقة وتمت ملاحقتهم من قبل الكنيسة الكاثوليكية؛ كانوا يؤمنون بأنهم النخبة المختارة وأنهم فقط الطاهرون الذين يستحقون الخلاص.
أما في الهندوسية نجد (الثاغيين)، وهي جماعة سرية ظهرت في الهند خلال القرن الثامن عشر، واشتهرت بممارساتها الغامضة والتضحية البشرية، مما جعلها مرعبة لكل من حولها، وفي سياق مختلف، نجد (المانويين)، أتباع الديانة المانوية التي ظهرت في الإمبراطورية الفارسية القديمة، والتي مزجت بين عناصر من الزرادشتية والمسيحية والبوذية، وكانت تؤمن بالصراع الأبدي بين النور والظلام.
تلك الجماعات وغيرها، كانت دائمًا تقوم على فكرة التفوق الروحي أو العقائدي، حيث يقنع قائد الجماعة أتباعه بأنهم الأجمل، الأقوى، والأكثر إيمانًا واختلافًا عن باقي البشر، هذا المفهوم تم معالجته بشكل مميز في مسلسل “الحشاشين” الذي عُرض في شهر رمضان الماضي، وكلمة “حشاشين” نفسها تأتي من لفظ “أساسنز” (Assassins) بالإنجليزية، وهو مصطلح يصف الجماعة التي أسسها (حسن الصباح).
تم وصف هذه الجماعة من قبل أعدائها بالمغتالين أو الفدائيين، بسبب استعدادهم للتضحية بحياتهم في سبيل طاعة قائدهم الذي وعدهم بالفردوس . 
من الجدير بالذكر أيضًا أن اسم “أساسنز” ارتبط بسلسلة ألعاب فيديو شهيرة تحمل نفس الاسم، والتي صدرت على مدار سنوات عدة. هذه الألعاب سلطت الضوء على أفعال “الحشاشين” وطريقة حياتهم وهجماتهم، مع إضافة عناصر درامية لجعل التجربة أكثر إثارة.
هناك مفهوم يُعرف بإسم (التسامي)، حيث يقوم الشخص بتحويل مشاعره السلبية أو الدوافع الداخلية التي قد لا يتقبلها المجتمع إلى تصرفات تبدو مقبولة، أو حتى محبوبة من الآخرين، في حالة الشيخ المذكور مثلاً؛ نجد أن أتباعه متمسكين به لأنهم يرون فيه شخصًا ينقلهم إلى عالم “روحاني مريح” ويجعلهم يشعرون بالتفوق على الآخرين، هذه الحالة من التعلق الزائد قد تدفعهم إلى الدفاع عنه بشدة حتى لو كانت الحقائق الواضحة تشير إلى عكس ذلك.
لنأخذ على سبيل المثال الكاتب المشهور “عمر طاهر”، الذي يعد من أتباع هذا الشيخ المعروف رغم أن أعماله الأدبية تعكس حسًا نقديًا ورؤية واضحة، إلا أن تعلقه بهذه الشخصية يعكس حالة من التناقض الذي يثير الدهشة، ليس “عمر طاهر” فحسب، بل إن كاتب مسلسل “الحشاشين” الشهير أيضًا يُعَد من مريدي هذا الشيخ، وعلي الرغم من ان مسلسله ينتقد الجماعات المتطرفة ويبرز خطورتها على المجتمع؛ إلا أن ارتباطه بشخصية غامضة مثل هذا الشيخ، يثير العديد من التساؤلات حول تأثيرها على أفكاره وإبداعه في التأليف.
تلك العلاقة المعقدة والغربية بين النقد الدرامي والاتباع الخفي، تجعلنا نتساءل عن مدى سيطرة هذه الشخصيات على عقول وأرواح من يتبعونهم، بالاخص المشاهير والمثقفين!
لطالما كان هناك ذلك الزعيم القوي الذي قاد أتباعه إلى حافة الهاوية، حيث تبعوه بلا تردد، معتقدين أنه يملك الحقيقة الكاملة، في الصين القديمة، كانت هناك قصة عن رجل يُدعى ليانغ، كان زعيمًا دينيًا يعتقد أتباعه أنه يمتلك قدرات خارقة تجعله فوق مستوى البشر، قادهم ليانغ في طقوس غامضة، وكانوا يطيعونه طاعة عمياء، حتى عندما بدأت تصرفاته تصبح أكثر تطرفًا وغرابه!
وفي إحدى الليالي الكالحة؛ قرر ليانغ اختبار ولاء أتباعه، فطلب منهم أن يقفزوا من أعلى جرف شديد الارتفاع، زاعمًا أن الآلهة حتما ستنقذهم، وبالفعل، قفز البعض دون تردد، لينتهي بهم الأمر إلى موت محقق، وبينما ترتطم أجسادهم بالصخور؛ كانت الحقيقة قد انكشفت أمام أعين من بقوا على الجرف، ليانغ لم يكن إلا رجلًا عاديًا، استخدم إيمانهم كأداة لخداعهم، متخفيًا وراء ستار من الوهم والقوة المصطنعة، تلك اللحظة التي تلاشت فيها أوهامهم كانت نقطة تحول؛ حين أدركوا أنهم ضحايا لإيمانهم الأعمى، وأنهم اتبعوا رجلاً لم يكن يملك من القوة سوى ما منحه إياهم ضعفهم.
هذه القصة القديمة ترددت أصداؤها حسب كل مجتمع وكل زمان، ودائما ماتنتهي بكارثة، ومهما طالت الأيام فجميع من يسير في طريق مماثل؛ سينكشف في النهاية وربما تكون هذه الحكاية التي اكتبها اليوم مجرد واحدة من بين آلاف الحكاوي المصرية التي تعيش في زوايا مجتمعنا المظلمة، ولكن ما يظل مؤكدًا هو أن الضوء سيكشف كل ما كان خفيًا، وستظهر الحقائق كما هي بلا أقنعة ولا تلاعب.
سيف عامر
