عبد السلام النابلسي: الكوميديان الأرستقراطي الذي أخفى مآسيه بضحكة خالدة

في عالم السينما المصرية الكلاسيكية، يبرز اسم عبد السلام النابلسي كأيقونة فريدة للكوميديا الراقية. هو “الكونت” وصاحب الضحكة المميزة و النبرة الأرستقراطية التي لا تخطئها أذن. لكن خلف هذه الصورة اللامعة، تختبئ قصة إنسانية مليئة بالتحولات الدرامية، والصراعات الشخصية، والمواقف التي صنعت أسطورته كفنان و إنسان.

من عكار إلى القاهرة: النشأة والتحول

ولد عبد السلام النابلسي في 23 أغسطس 1899 في مدينة عكار بلبنان، لأسرة ذات أصول فلسطينية من مدينة نابلس، وهو ما يفسر لقب “النابلسي” الذي حمله بفخر. كانت عائلته ذات جذور دينية وقضائية، فقد كان جده قاضي نابلس الأول، وكذلك والده. أرسله والده إلى مصر ليلتحق بالأزهر الشريف، وبالفعل حفظ القرآن الكريم وبرع في اللغة العربية، لكن شغفه كان في مكان آخر.

في القاهرة، بدأت ميول النابلسي الفنية في الظهور. انخرط في العمل الصحفي في مجلتي “اللطائف المصورة” و”الصباح“، وبدأ يتردد على المسارح والدوائر الفنية. كانت هذه هي بوابته السحرية لعالم الأضواء. في عام 1929، عرضت عليه المنتجة آسيا داغر دورا في فيلم “غادة الصحراء“، لتبدأ رحلته السينمائية التي لم يكن يعلم أنها ستخلد اسمه في تاريخ الفن العربي.

الحياة الفنية:

ملك الأدوار الثانية وصانع البهجة

لم يكن النابلسي بطلا أولا بالمعنى التقليدي، لكنه كان “ملك الأدوار الثانية” بلا منازع. صنع لنفسه “كاركتر” فريدا، وهو الشاب الأرستقراطي، خفيف الظل، سريع الكلام، الذي يقع دائما في مواقف كوميدية. برع في تقديم هذا الدور بجانب كبار النجوم مثل إسماعيل ياسين، عبد الحليم حافظ، وفريد الأطرش.

شكل مع إسماعيل ياسين ثنائيا كوميديا لا ينسى في أفلام مثل “إسماعيل يس في متحف الشمع” و”الفانوس السحري“. كما كان الصديق الوفي خفيف الظل لعبد الحليم حافظ في أفلامه الشهيرة مثل “شارع الحب” و”يوم من عمري” و”فتى أحلامي“. كانت مشاهده مع حليم تتميز بتلقائية وحضور طاغ، جعلت منه جزءا لا يتجزأ من نجاح هذه الأعمال.

على الرغم من حصره في الأدوار الكوميدية، إلا أنه قدم أدوارا تراجيدية قليلة أثبتت قدراته التمثيلية الواسعة، مثل دوره في فيلم “حلاق السيدات” الذي حمل لمحات إنسانية عميقة.

مواقف أثرت في حياته: من الإفلاس إلى المنفى

لم تكن حياة النابلسي سهلة كما قد تبدو على الشاشة. كان من أبرز المواقف التي أثرت فيه هو إفلاسه. كان شغوفا بإنتاج الأفلام، فأسس شركة إنتاج وقام بإنتاج فيلم “حبيب حياتي“، لكن الفيلم فشل تجاريا، مما أدى إلى تراكم الديون عليه بشكل هائل.

هذا الإفلاس كان أحد الأسباب الرئيسية لقراره الصعب بمغادرة مصر إلى لبنان في أوائل الستينيات. تفاقمت أزمته المالية مع الضرائب، وشعر بأن الأبواب توصد في وجهه، فرحل إلى بلده الأم ليبدأ من جديد. في لبنان، واصل مسيرته الفنية وقدم عددا من الأفلام الناجحة.

الحياة العاطفية: زواج مفاجئ في الستين

عرف عن النابلسي عزوفه عن الزواج لفترة طويلة، حتى أطلق عليه لقب “أشهر عازب في الوسط الفني“. كان يرى أن الزواج مشروع فاشل ومقبرة للحب. لكن هذا الاعتقاد تغير تماما عندما التقى بـ جورجيت ثابت.

وقع في حبها وقرر الزواج منها وهو في الستين من عمره. كان زواجهما مفاجئا و صادما للكثيرين، خاصة وأنه تم “اختطافه” بسبب معارضة أهلها الشديدة للزواج منه نظرا لفارق السن الكبير واختلاف الديانة. عاش معها قصة حب هادئة وسعيدة حتى آخر أيامه، وكانت هي السند له في أصعب فتراته الصحية والمادية.

الأوضاع السياسية والمالية: رحلة من الثراء إلى المعاناة

لم يكن للنابلسي مواقف سياسية معلنة بشكل صريح، فقد كان فنانا يركز على عمله. لكن قراره بالهجرة من مصر ارتبط بشكل غير مباشر بالأوضاع الاقتصادية والقرارات الضريبية في تلك الفترة.

ماليا، عاش النابلسي حياة متقلبة. في أوج نجوميته، كان من أعلى الممثلين أجرا، وعاش حياة مترفة تليق بصورته الأرستقراطية على الشاشة. لكن أزمته المالية بعد فشله في الإنتاج وتراكم الضرائب عليه، جعلته يعاني في سنواته الأخيرة. تفاقم الأمر عندما أعلن بنك “أنترا” في لبنان إفلاسه، وكان النابلسي قد أودع فيه كل ما تبقى من أمواله، ليجد نفسه مفلسا للمرة الثانية وفي شيخوخته.

علاقاته بالوسط الفني: صداقات نادرة وعداوة خفية

كان النابلسي محبوبا في الوسط الفني وعرف عنه لطفه ودماثة خلقه. كانت تجمعه صداقة قوية بالفنان فريد الأطرش، الذي كان يثق فيه ثقة عمياء، حتى أنه كان يوقع له شيكات على بياض. لكن هذه الصداقة انتهت بشكل مأساوي بسبب وشاية نقلت لفريد أن النابلسي يسخر منه خلف ظهره، وهو ما لم يكن صحيحا. مات فريد وهو غاضب من صديق عمره، وظل هذا الموقف جرحا غائرا في قلبه حتى وفاته.

كما كانت علاقته مميزة مع عبد الحليم حافظ وإسماعيل ياسين وغيرهم من النجوم الذين شاركهم أعمالهم.

الرحيل الحزين

في 14 يوليو 1968، رحل عبد السلام النابلسي عن عالمنا في بيروت، بعد أن أصيب بأزمة قلبية حادة. كانت وفاته حزينة ومؤلمة، حيث لم تجد زوجته مصاريف الجنازة، فتكفل بها أصدقاؤه. مات الكوميديان الذي أضحك الملايين وهو يعاني من ضائقة مالية، تاركا خلفه إرثا فنيا خالدا، و ضحكة لا تزال ترن في آذان محبيه، وقصة حياة مليئة بالدروس والعبر عن تقلبات

القدر و مفارقات الحياة.

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.