وديع الصافي.. صوت الجبل الذي غنّى فاهتزّ له وجدان العالم
وديع الصافي.. صوت الجبل الذي غنّى فاهتزّ له وجدان العالم
وديع الصافي.. أكتب هذه السطور في ذكرى رحيل الفنان الكبير وديع الصافي، بينما يملأ صوتُه الغرفة بأغنيته الخالدة «عندك بحرية يا ريس». تتسلل نغماته كنسمة بحرٍ تأتي من زمنٍ صافٍ، كأنها تذكّرني أن هذا الصوت لم يكن يومًا عاديًا، بل كان جزءًا من طبيعة لبنان نفسها، من صخوره وأرزِه ومائه وحنينه.
كتبت / ماريان مكاريوس
وكلما ارتفعت الجملة الموسيقية في نهاية الأغنية، أحسّ كأن الجبل يغني معي، وكأن العالم كله يصغي لذلك الصوت الذي لا يموت.
في مثل هذا اليوم من أكتوبر، تمرّ ذكرى رحيل صوت الجبل، الذي غادرنا في الحادي عشر من أكتوبر عام 2013، بعد مسيرة فنية امتدت أكثر من سبعة عقود.
ومع كل عامٍ جديد، يزداد حضوره رسوخًا، لأن الأصوات الصادقة لا ترحل، بل تتحوّل إلى ذاكرةٍ موسيقيةٍ تعيش فينا.
المولد والنشأة والبدايات
وُلد وديع بشارة فرنسيس عام 1921 في قرية نيحا الشوف بين أحضان الطبيعة اللبنانية التي شكّلت وجدانه وملامح صوته.
في تلك البيئة الجبلية، تعلم معنى الشموخ والصلابة، وتفتّح على ألحان الطبيعة وأصوات القرى والكنائس، فكانت موسيقاه منذ البداية امتدادًا لذلك النقاء الريفي الذي لا يعرف التصنع.
شارك وهو في السابعة عشرة من عمره في مسابقة غنائية نظمتها الإذاعة اللبنانية عام 1938، وفاز بالمركز الأول، ليبدأ رحلة المجد. ومنذ تلك اللحظة، صار اسمه وديع الصافي رمزًا للصفاء والصدق الفني، وصار صوته عنوانًا للأغنية اللبنانية الأصيلة.
لم يكن وديع الصافي يغني للحب وحده، بل للوطن والكرامة والانتماء. كان يرى أن الأغنية مرآة الأرض التي أنجبتها، لذلك كانت كلماته ولحنه دائمًا من طين لبنان ومائه وهوائه.
حين غنّى «لبنان يا قطعة سما»، لم يكن يغني مجرد كلمات، بل كان ينادي وطنًا يفيض جمالًا ووجعًا. ومع أن لبنان عرف الحروب والانقسامات، ظلّ صوته يوحّد القلوب لأنه كان أكبر من السياسة وأعمق من الخلافات.
كان يقول دائمًا: «ما أعز من الولد إلا البلد»، وكان يرى أن الفن الحقيقي هو الذي يحمل رسالة ويُبقي الأمل حيًا في النفوس. لهذا، بقي صوته يرافق اللبنانيين في الفرح والحزن، في الحرب والسلم، كأنه صلاة لا تنقطع.
امتاز الصافي بقدرة استثنائية على الجمع بين المدرسة الطربية الشرقية وروح الفولكلور اللبناني. كان يستند إلى الميجانا والعتابا والموّال، ويُدخل عليها حسّه اللحني الفريد، فخلق مدرسة فنية سُمّيت لاحقًا بـ“المدرسة الصافية”.
تعاون مع كبار الشعراء والملحنين، من الأخوين رحباني وزكي ناصيف إلى فريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب، وغنّى بلغات ولهجات مختلفة.
قال عنه عبد الوهاب يومًا: «من غير المعقول أن يملك أحد هكذا صوت».
تلك الجملة لم تكن مجاملة، بل إقرار بأن الحنجرة التي تحمل الجبل في داخلها لا يمكن أن تشبه سواها.
العاشق والحبيب الغائب
عندما اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية عام 1976، اضطر وديع الصافي إلى مغادرة وطنه، متنقلًا بين مصر وبريطانيا وفرنسا. كانت الغربة قاسية، لكنه لم يتوقف عن الغناء، بل جعل منها موضوعًا جديدًا لصوته.
ففي منفاه ، غنّى للبنان كما يغني العاشق لحبيبٍ غائب، حتى صار صوته مرادفًا للحنين ذاته. كان يقول: «أنا بغني لحتى حسّ بالبلد اللي جوّا قلبي».
وحين عاد إلى بيروت بعد انتهاء الحرب، استقبلته الجماهير كما يُستقبل الأبطال، فقد عاد إليهم صوتهم الأصيل الذي لم يخن الذاكرة يومًا.
بعيدًا عن الأضواء، كان وديع الصافي إنسانًا بسيطًا، يحمل قلبًا كبيرًا يشبه رقة صوته في لحظات الشجن. كان متواضعًا رغم المجد، زاهدًا رغم الشهرة. لم تغره الألقاب ولا المهرجانات، وكان دائمًا يردّد: «أكبر جائزة هي محبة الناس».
كان مؤمنًا بأن الفن رسالة روحية، وأن الغناء لا يُقاس بالتصفيق بل بالتأثير. حتى في سنواته الأخيرة، ورغم المرض والشيخوخة، ظلّ يغني على المسرح، وكأنه يرفض أن يصمت الجبل.
الرحيل الهادئ وصدى البقاء
في الحادي عشر من أكتوبر 2013، خبا الجسد وبقي الصدى. رحل وديع الصافي بعد أزمة صحية مفاجئة في منزل ابنه، ورغم محاولات الأطباء، أسلم الروح بهدوء يشبه سكون المساء في جبل لبنان.
شيّعته بيروت في مأتمٍ رسمي وشعبي مهيب، تقدّمه الفنانون والسياسيون والمحبون من كل الوطن العربي، ودفن في مسقط رأسه نيحا الشوف، ليعود إلى التراب الذي غنّى له عمرًا كاملًا.
لم يكن وداعه بكاءً بقدر ما كان احتفالًا بالخلود، فقد غنّت له الطيور يوم رحيله كما لو كانت تعرف أن الجبل لا يموت.
صدى الجبل في الأجيال الجديدة
لا يزال تأثير وديع الصافي ممتدًا في أصوات الجيل الجديد من الفنانين اللبنانيين مثل عاصي الحلاني وملحم زين ووائل كفوري، الذين استلهموا من صوته القوة والإحساس والانتماء. كثيرون منهم يعتبرونه “المدرسة الكبرى” التي لا تُدرّس في المعاهد، بل تُحفظ في الوجدان.
وصوته، حتى اليوم، يُدرّس في المعاهد الموسيقية كنموذج للكمال الصوتي العربي، حيث يلتقي العلم بالعاطفة، والتقنية بالروح.
حين أستمع إلى “عندك بحرية”، أفهم لماذا ارتبط اسمه بالبحر والجبل معًا: البحر في اتساعه، والجبل في ثباته. رحل وديع الصافي، لكن صوته بقي يملأ المسافات بيننا، ويذكّرنا أن الفن الحقيقي هو الذي يُبقي الإنسان قريبًا من السماء.
في ذكرى رحيله، لا نرثي وديع الصافي، بل نحتفي بذلك الصوت الجبلي الذي غنّى فاهتزّ له وجدان العالم لأن الأصوات الصافية لا تُطفئها السنوات، بل تزداد نقاءً مع الزمن.