حجة الوداع 2 بقلم فضيلة الشيخ أحمد على تركى
حجة الوداع 2
بقلم فضيلة الشيخ أحمد على تركى
مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف
ما زال الحديث موصولاً ونستكمل فنقول :
(د) الله تعالى يشهد لمكة المكرمة بالحرمة:
جعل الله تعالى الكعبة المشرفة قبلة للعابدين من خلقه من زمن أبينا آدم عليه السلام وإلى أن يشاء الله، وذكر مكة المكرمة وحرمها الشريف سبعا وعشرين مرة في محكم كتابه، وسمي باسمها إحدى سوره وهي سورة “البلد” واقسم بها قائلا: “لا أُقْسِمُ بِهَذَا البَلَدِ” (البلد:1). ونفي القسم في اللغة العربية مبالغة في توكيده، والله تعالى غني عن القسم لعباده، فإذا جاءت الآية القرآنية الكريمة في صيغة القسم كان ذلك من قبيل تنبيهنا (نحن معشر المسلمين) إلى أهمية الأمر المقسم به. ولما كانت مكة المكرمة هي المدينة الوحيدة التي جاء القسم بها في كتاب الله كان في ذلك تنبيه لنا إلى عظيم مكانتها، وشرف قدرها، وحرمتها عند الله. ومن هنا كان الحج إليها والاعتمار بها عبادة من أجل العبادات وأكرمها عند الله، ومن أعظم القربات إليه، ومن هنا أيضا كانت مضاعفة الحسنات فيها إلى مائة ألف ضعف بل إلى أضعاف كثيرة، وكان تعظيم الدية على من ارتكب جناية فيها، وتغليظ العقوبة على المسيئين بها، وكان تحريم دخول المشركين إليها، ووجوب إحرام المسلمين من المواقيت المحددة قبل الوصول إليها حاجين أو معتمرين.
(هـ) رسول الله ﷺ يشهد لمكة المكرمة بالحرمة الإلهية:
أكد رسول الله ﷺ على حرمة مكة منذ الأزل، وأورد في ذلك عشرات من الأحاديث نختار منها ما يلي:
• “إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس” (البخارى ومسلم).
• “إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها” (البخاري وأحمد والنسائي).
• “إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة”.
• ” إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، ألا وإنها ساعتي هذه حرام، لا يختلي خلاها، ولا يعضد شجرها، ولا يلتقط ساقطتها، إلا لمنشد” (البخاري ومسلم).
“لا يكون بمكة سافك دم، ولا آكل ربا، ولا نمام، ودحيت الأرض من مكة، وأول من طاف بالبيت الملائكة” (الأزرقي والجندي).
وقال رسول الله ﷺ فيما خطب به الناس يوم الفتح:
• “إن مكة حرمها الله يوم خلق السموات والأرض، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، ولا يعضد شجرا، فإن أحد ترخص في قتال فيها فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن له ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها أمس”.
وختم ﷺ هذه التوصيات المشددة على حرمة مكة المكرمة بقوله الشريف: “لا تزال هذه الأمة بخير ما عظموا هذه الحرمة حق تعظيمها، فإذا ضيعوا ذلك هلكوا”.
وهذه الأحاديث النبوية الشريفة هي مذكرة تفسيرية لقول ربنا تبارك وتعالى على لسان خاتم أنبيائه ورسله ﷺ
:﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ﴾ (النمل :91).
(و) قدسية مكة المكرمة عبر التاريخ:
بقي تقديس مكة المكرمة إلى عهد داود عليه السلام، وبقي ذكرها في مزاميره، رغم ضياع أصول تلك المزامير، ورغم تعرض ما بقي من ذكريات عنها للتحريف تلو التحريف، وللتزوير والتزييف. فقد جاء ذكر “وادي بكة” في بعض الابتهالات المنسوبة إلى داود عليه السلام “في العهد القديم” (مزمور 48/6) الموجود في كل من طبعة تومبسون
1. Today’s English Version Bible.
2. Thompson Chain – Reference Bible.
وفى كل الطبعات باللغات الأجنبية الأخرى، ولكن في الترجمة العربية للنص الانجليزي تم تحريف “وادي بكة” إلى “وادي البكاء”، علما بأنه لا يوجد في المنطقة العربية كلها واد بهذا الاسم المحرف، كما تم تحريف لفظة (الحج) إلى تعبير طرق بيتك، كما جاء في طبعة للعهدين القديم والجديد (نشر دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط – بيروت ص 892).
واستمر العرب في جاهليتهم يعظمون شعيرة الحج، وحرمة البيت، على الرغم مما كانوا قد وقعوا فيه من انحرافات الشرك، والضلال عن الحق، والابتداع في الدين من أمثال التصدية، والتصفير، والتعري بالكامل أثناء الطواف، ووضع الأصنام والأوثان حول الكعبة. فكان الرجل يلاقي قاتل أبيه في الحرم فلا يناله بسوء تعظيما لحرمة البيت. وكان اتفاق كل قبائل العرب على ذلك دليلا على ما كانوا قد توارثوه عن أجدادهم من بقايا الحق القديم الذي دعا إليه جميع أنبياء الله ورسله، وكان على رأسهم نبيا الله إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام. ولم تكن حرمة مكة المكرمة تحمي الإنسان فقط في زمن الجاهلية، بل امتدت إلى تأمين كل من النبات والحيوان في كل الحرم المكي الذي كانت حدوده معلومة للجميع. وظل الحال كذلك حتى كانت السنة العاشرة من الهجرة، حين تجددت فريضة الحج في بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين ﷺ، فجاء ليرد الناس من جديد إلى دين الله الحق، وليعيد إحياء عبادة الحج كما شرعها ربنا تبارك وتعالى لعباده، ويغسلها مما كان قد علق بها من أدران الشرك، وضلالات الشيطان، ويعيدها نقية صافية كما شرعها الله تعالى، ومن هنا كانت ضرورة “حجة الوداع” المعروفة أيضا باسم “حجة البلاغ ” أو “حجة الإسلام”.
(ز ) رسول الله ﷺ: يمتدح شعيرتي الحج والعمرة والمقام بمكة:
امتدح رسول الله ﷺ شعيرتي الحج والعمرة في أحاديث كثيرة نختار منها أقواله التالية:
• “الحجاج والعمار وفد الله، إن دعوه أجابهم، وان استغفروه غفر لهم” (ابن ماجه فى مسنده).
• “من حج إلى مكة كان له بكل خطوة يخطوها بعيره سبعون حسنة، فإن حج ماشيا كان له بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة من حسنات الحرم، أتدري ما حسنات الحرم؟ الحسنة بمائة ألف حسنة”.
• “المقام بمكة سعادة، والخروج منها شقوة”.
• “إن الله تعالى ينزل على أهل هذا المسجد (مسجد مكة) في كل يوم وليلة عشرين ومائة رحمة: ستين للطائفين، وأربعين للمصلين، وعشرين للناظرين” (البيهقى والطبرانى).
• “ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة” (متفق عليه).
• روي عن رسول الله ﷺ قوله عن مكة المكرمة: “والله إنك خير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت” (أحمد، ابن ماجه، الترمذي).
• وقال: “ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك”.
• “لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا” (متفق عليه).
• “من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه” (البخاري ومسلم).
لماذا شرع الله تعالى فريضة الحج؟
الحج يعني قصد الإنسان مكة المكرمة محرما من الميقات المحدد في أشهر الحج، والوقوف بعرفة، وما يتبع ذلك من مناسك، يؤديها كل مسلم بالغ عاقل حر مستطيع، ولو مرة واحدة في العمر؛ وذلك استجابة لأمر الله، وابتغاء مرضاته. والحج هو أحد أركان الإسلام الخمسة، وفرض من الفرائض المعلومة من الدين بالضرورة، وحق لله تعالى على المستطيعين من عباده ذكورا وإناثا لقوله: ﴿…وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ﴾ (آل عمران: 97).
والحج هو عبادة من أجلِّ العبادات وأفضلها عند رب العالمين، وذلك لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ “سُئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم جهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم حج مبرور (أي الذي لا يخالطه إثم)” (أخرجه الإمام أحمد).
وأصل(العبادة) الطاعة، و(التَّعَبُّد) هو التنسك، والطاعة المبنية على أساس من الطمأنينة العقلية والقلبية الكاملة لا تحتاج إلى تبرير، ولكن إذا عرفت الحكمة من ورائها أدَّاها العبد بإتقان أفضل، وكان سلوكه في أدائها أنبل وأجمل، وكان أجره على حسن أدائها أوفى وأكمل.
اقرأ المزيد
حجة الوداع 1 بقلم فضيلة الشيخ أحمد على تركى