جون ديُنق صديق أُوهاج وزهرة الكونيفلور البرِّية

الكاتب: محمد صالح موسى إبراهيم

أحيانًا، تسنحُ لنا الفرص لنتعرف على أُناس لربما تستحي حروفُ اللغات جميعها عند وصفهم؛

ولكن عندما نحاول التقرب منهم يختفون وإلى الأبد!.

(١)

بدأت القصة عندما ظهر ذلك الشاب الوسيم الذي يُدعى (أوهاج)، الذي كان يقطنُ في أحد الأحياء الفقيرة بمدينة كسلا،

منازلٌ بُنِيتَ بواسطة طين (الجالوص) وقطبا السكة حديد المهجورة، تلك الغرف الفقيرة،

الكئيبة التي تحمل الكثير من الأسى، الألم وفقدان الأحبة، تفوحُ منها رائحة دخان سجائر العم (أوكاش)

وصدى أغاني محمود عبد العزيز، والراحل الباقي (أبو السيد) الجميل!. أوهاج كان رجلاً طيبا، يحب المِزاح،

يضحك الناس من حولهِ، كان لديه صديق يدعى جون دينق، جون يقبعُ في مدينة (نمولِ) في جنوب السودان،

أوهاج قابل صديقة جون أول مرة في مدينة طوكر؛ حيث إنهم كانوا يعملون في نفس المهنة، تحابا وأصبحا أصدقاء مقربين!

-أوهاج وعد جون بأنهم سيظلان أصدقاء إلى الأبد، وعدهُ بأنه لن يفارقهُ أبدًا-

جون طلب من أوهاج معروفا أراد مساعدة بخصوص التجارة بينهم، وسرعان ما لبى أوهاج طلب صديقه جون،

بعد ذلك ذهب جون إلى الجنوب ودعي صديقه أوهاج ليعملا معًا في مهنة صيد الأسماك،

كان أوهاج في أمس الحاجة للعمل، لأن وضع أسرته كان مرِيرًا،

اتصل أوهاج إلى صديقة جون ليخبرهُ بقدومهِ إلى جنوب السودان، فرح جون بسماع ذلك الخبر السار؛

حيثُ إنه سوف يرى صديقه العزيز مرة ثانية…

(٢)

قرر أُوهاج أن يذهبَ في رحلةٍ إلى جنوبِ السودان من أجل التجارة، أعلن عن رحيلهِ إلى الجنوب مبكرًا،

وكان كثير من الناس يسخرون منهُ عندما يتحدث بأمر انتقالة إلى جنوب السودان، كانوا يعتقدون أنه يمزح؛ ولكنهُ كان جادًا.

وفي إحدى الليالي كان أوكاشا يُجالسُ أصدقاءه بالقرب من نهر (القاش)،

يعزفون على آلة (الربابة) ويغنون على أنغام الشرق الجميلة؛ أصواتٌ تُحركُ السُحبِ فوق جبل (توتيل) وهضاب (التاكا)،

تلِك الأوتار: تعظمُ وتمجدُ وترفعُ من شأن مدينة كسلا الجميلة في كل رنَّةٍ مِنْ رناتها الشرقية!

وأثناء تلك الجلسة الرائعة، تحدث أوهاج مع أصدقائه فقال لهم: “يوم قدٍ سوف أغادر باكرًا إلى مدينة الخرطوم حيث المطار،

لكي أصل إلى طائرتي التي تنتظرني هناك، التي تقلني إلى مطار جوبا” وكالعادة سخر منهُ الجميع،

ذهبوا إلى بيوتهم وهم يضحكون…

(٣)

وفي اليوم الثاني من شهر أيار تحرك أوهاج قاصِدًا العاصمة الخرطوم،

كانَ مسرورًا جدًا لأنهُ سوف يُسافرُ ولأول مرة بالطائرة، وأيضًا سوف يلتقي بصديقهِ العزيز جون ديُنق!.

وفي تمام الساعة التاسعة وصل مدينة (ود مدني) وهو في طريقهِ إلى الخرطوم عندما وصل منطقة (الباقير)

أول منطقة للخرطوم لم يكن الوضع كما اعتقد، بدأ يسمعُ أصوات المدافعِ و(المدرعات) الثقيلة،

نظر إلى السماء رأى أعمدة الدخان تتصاعد من كل مكان …

المنظر أضحى مخيفًا بدأت تظهر  ملامح القلق والتوتر عليهِ وعلى بعض الرُكّاب الذين يركبون معهُ في تلِك الحافلة،

رُقم كل هذه الأشياء لم تتوقف الحافِلة … أُوهاج كان خائفًا!

ينظرُ بتلك الأعيُن الجميلة التي تعكس ملامح النيل وخضرة بُسْتان (وسط المدينة)،

يُشاهدُ من خلال النافذة الزجاجية لتلك الحافلة الضخمة التي تعجُ بالرُكّاب، رَأَى ما لمْ يتوقعهُ حدوثه يومنًا،

جُثثٌ مرميةٌ على أراضي الوطن الحبيب! شهِدة أُناسًا تسرقُ من بيوُتِها، و (جُنْدِيٌّ) مذلولٌ يلبسُ دستور الوطن وهو عَارٍ،

يمشي على رجليهِ ويديهِ ويصدرُ أصوات الخِراف، وأفْرَادٌ مِنْ جنودِ (الجِنّ) تَضْحَكُ على هذا المشهد البغيض؛

في حضرِ (جُثْمانُ) شهيدٍ قُتِلَ سهْوًا! وكذلك أوهاج ومَن معهُ ماتوا وهم ينْظُرُونَ إلى من أودى بحياتهم !.

(٣)

ماتَ أُوهاج ولم تمُتَ أفكارهُ، ماتَ جسديًا؛ ولكن روحهُ باقِيهْ في نفسينا جميعًا، دُفِنَ هو ولم تُدفن معهُ محبتنا لهُ،

رحل مبتسمًا وكأنهُ يسخرون من تِلك النهاية البداية! هل حقًا ماتَ أوهاج؟!

لا، بل جُزءً من الحضارة الشرقية وتفاصيل (البِجَّا) ماتَتَ ملامح تلك الطبيعية التي أحبت جنوب البلاد،

الطبيعة التي أنجبت الفن والثقافة، مات التناقض في الهوية، ماتت بقايا الحزن، مات الألم والفقر!.

أوهاج باقٍ فينا جميعًا، يعيشُ في روحِ كل سوداني يُقدسُ التسامح، التآخي والسلام.

وبعد مرور أيام قليلة على فراق أوهاج؛  سمع جون ديُنق بخبرِ وفاتْ صديقهِ العزيز!

كانتَ فاجِعة بل -كارثة- لوّنتَ سماء جنوب السودان بألوان الحُزن، لم يستطعَ تحمل فقدان صديقة، انهارَ بالبُكاء!

وقبل أن يصيبهُ المرض بعُدَّة أيام؛ طلب جون من صديقهِ (بيتر) أن يجد قبر صديقهِ أوهاج

ليضع فيه زهرةً من صنف الكونيفلور البري، وكما أراد جون فعل بيتر، ووضع الزهرة على قبر صديقه الحبيب أُوهاج،

تِلك الزهرة التي تكاد أن تكون ذابِلة! وُضِعت من فوق ترابهِ، حلَّ فصل الخريف، وهطل المطر من فوقِها فتماسكْتَ،

تَفتَّحَتْ وفرّْهدَتَ؛ ولكن أوهاج لم يفعل ذلك أبدًا!.

….

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.