مشروع الدولة المصرية وعودة الكتاتيب في الوعي الجماهيري

مشروع الدولة المصرية وعودة الكتاتيب في الوعي الجماهيري

في زمن انكسار الذاكرة الجمعية وسقوط التعليم في قاع السخرية، تطل الكُتاتيب من جديد، لا كحنينٍ إلى الماضي، ولكن كضرورة وطنية لمستقبلٍ مأزوم!

بقلم الكاتب والناقد/ د .عمر محفوظ

ولأن الدولة المصرية تسعى – أو هكذا ينبغي – إلى إعادة بناء الإنسان قبل البنيان، فإن مشروع عودة الكتاتيب ليس ترفًا، بل هو ركيزة من ركائز تجديد الوعي العام، وإنقاذ النشء من الضياع بين ضجيج التكنولوجيا وخواء المدارس.
الكُتّاب.. المؤسسة الشعبية لتربية الإنسان
الكُتّاب في أصله ليس مكانًا لتحفيظ القرآن فحسب، وإنما مدرسة تربوية عميقة الغور، تنسج عقل الطفل ووجدانه بلغةٍ فيها الإيقاع والانضباط والقداسة، قبل أن يعرف المصطلحات الكبرى. في الكُتّاب كان الطفل يتعلم الأدب قبل الحرف، ويتشرب المهابة من شيخٍ وقور لا يملك إلا لوحًا ودواة.. لكنه يبني جيلًا كاملًا دون أن يدرك!
الكُتّاب هو اختراع العقل المصري الشعبي، مؤسسة أهلية سبقت التعليم النظامي بقرون، وكانت – ولا تزال – ضامنًا للهوية، ودرعًا ضد التشوهات الثقافية القادمة من الخارج والداخل معًا.

المشروع الوطني المجهول.. الدولة تتهيأ دون أن تدري

في صمت، عادت الكتاتيب إلى القرى والمدن المصرية، لكنها عادت بإرادة المجتمع لا بخطة الدولة. عاد الأهل يرسلون أبناءهم إلى “الشيخ”، ليس بدافع الدين وحده، بل بدافع الخوف من الفراغ، ومن المدارس التي تحوّلت إلى ساحات هزل، لا مراكز للعلم. عادت الكُتاتيب لا لتكون بديلًا، بل لتسد فجوةً كارثية تركتها المناهج العقيمة والطرق السطحية.


وإذا كانت الدولة تُخطط لمشروع “حياة كريمة”، فإن الحياة الكريمة تبدأ من عقل كريم، ووجدان مهذب.. ولا سبيل إلى ذلك إلا بإحياء ثقافة الكُتّاب، لا بوصفه حنينًا، بل مشروعًا عقلانيًا لبناء الإنسان المصري الجديد.

من الكُتّاب إلى المواطنة

في الكُتّاب كان الولد يُربّى على احترام الكلمة، وهيبة النص، وطهارة اللسان.. وكانت هذه القيم كلها تُزرع في الطفل دون أن يقال له “كن مواطنًا صالحًا”. الكُتّاب لم يعرف شعار “المواطنة”، لكنه أنتج آلافًا من الوطنيين النبلاء. لم يُدرّس “حقوق الإنسان”، لكنه ربّى أجيالًا لا تعتدي على حق أحد. هذا هو الفرق بين التربية بالفعل، والتربية بالشعار.

الكُتّاب في الجمهورية الجديدة.. هل تعقل الدولة؟

السؤال الأهم الآن: هل تدرك الدولة أن الكتاتيب ليست مجرد “حلقات دينية”، بل مشروع وطني متكامل؟ هل تفهم أن العودة إليها لا تعني الرجعية، بل التقدّم بمعايير الروح والانضباط؟ وهل تملك وزارة التعليم شجاعة الاعتراف بأن الحل في “القديم الذي لم يَعْتق”، لا في كل “تطوير” يصنعه موظف في مكتبٍ مكيف؟
إذا أرادت الدولة مشروعًا حقيقيًا لبناء الإنسان، فلتبدأ من هنا: دعم الكتاتيب، تأهيل الشيوخ، اعتماد المناهج الأصيلة، وربطها بالمدارس كمساراتٍ موازية تُنتج عقلًا مصريًا متزنًا، لا كائنًا هجينًا يردد ما لا يفهم.


في الختام..
عودة الكتاتيب ليست مشروعًا سلفيًا كما يظن بعض الغافلين، بل هي مشروع دولة، مشروع حضارة، مشروع نجاة. لقد انتصرنا يوم كان “اللوح” سلاحنا، وانهزمنا حين أصبح “التابلت” غايتنا. لا بأس أن نبدأ من “أ ب ت” على يد شيخٍ بسيط، إن كان في صدره نور.. خيرٌ من أن نُخرّج ألف مهندس لا يحسن فك الخط!
الكُتّاب هو المشروع الذي لا يُعلن، لكنه وحده القادر على إنقاذ ما بقي من الوعي في هذا الوطن المكلوم.

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.