حروب الجيل الرابع والخامس … أساسها الحرب النفسية وإستراتيجيتها إحتلال العقول لا الأرض

أحمد عبد الصبور

د. أحمد عبد الصبور

لم تعد الحرب في الوقت الراهن مجرد حرب تقليدية واضحة المعالم والأدوات ، فهناك تطور كبير في شكل الحروب على مدار القرون الماضية ، فنحن الآن نعيش في عصر مختلف تماماً عن كل ما سبق وأصبحنا نعيش فيما يسمى بحروب الجيل الرابع وحروب الجيل الخامس …

أن حروب الجيل الرابع والخامس تنتهجها القوى العظمى كإستراتيجية لإسقاط الحكومات والدول والنظم في العالم ، دون الدخول في الحروب العسكرية التقليدية .

أن حروب الجيل الرابع والخامس تختلف عن سابقاتها من الحروب بسبب طبيعتها كحروب شبكية ، إذ لا يوجد فيها مركز ثقل يعكس الهيكل المؤسسي للأطراف التي تخوض الصراع ويرتبط بهذا الملمح غياب القيادة لأن قادتها ” أفراد يعملون بصورة لا مركزية ” ، كما توصف بأنها حروب ” بلا قيود ” حيث لا توجد فيها محظورات ، وإنما باتت خليطاً من توظيف جميع الأدوات المتاحة التقليدية وغير التقليدية .

فقد أختلف المفهوم المتعارف عليه للحروب التقليدية في يومنا هذا – وهو ما يتضح لنا في حروب الجيل الرابع والخامس – لقد كانت الحرب تعرف بأنها نزاع مسلح تبادلي بين دولتين أو أكثر من الكيانات غير المنسجمة ، حيث الهدف منها هو إعادة تنظيم الجغرافية السياسية للحصول على نتائج مرجوة ومصممة بشكل ذاتي ، حيث تعد الحرب تفاعلاً بين اثنين أو أكثر من القوى المتعارضة والتي لديها ” صراع في الرغبات ”  ويستخدم هذا المصطلح أيضاً كرمز للصراع غير العسكري ، مثل الحرب الطبقية .

 

لا تُعد الحرب بالضرورة إحتلالاً أو قتلاً أو إبادة جماعية بسبب طبيعة المعاملة بالمثل كنتيجة للعنف ، أو الطبيعة المنظمة للوحدات المتورطة .

كما توجد أشكال أخرى للحروب مثل :-

الحرب الأهلية : فهي حرب بين الفصائل لمواطني بلد واحد ( كما هو الحال في الحرب الأهلية الأمريكية ) ، أو بشكل آخر هي نزاع بين دولتين تم إنشاؤهما من أصل واحد ومتحد سابقاً .

الحرب بالوكالة : فهي حرب تنتج عندما تستعين قوتان بأطراف ثالثة كبدائل لقتال بعضهم البعض بشكل مباشر .

وللحرب كيانها الثقافي وممارستها ليست مرتبطة بنوع وحيد من التنظيم السياسي أو المجتمعي ، فإن الحرب هي ظاهرة عالمية ، وشكلها ونطاقها يحددها المجتمع الذي يقوم بها .

تمتد سير الحرب على طول سلسلة متصلة من الحروب القبلية شبه العالمية والتي بدأت قبل التاريخ المسجل للإنسان ، ثم إلى حروب بين المدن أو الأمم أو الإمبراطوريات .

إن الحروب التقليدية المعروفة في بدايتها بحروب الجيل الأول … وهي الحروب التي كانت تمارس منذ بدء الخليقة بإستخدام السيوف والسهام والعجلات الحربية ، إعتماداً على حشد كبير من المقاتلين الأشداء ، وهي المعارك المخلدة على جدران المعابد الفرعونية ، وفيها يقود الملك الفرعوني جيشه من فوق عجلته الحربية حتى طرد الأعداء من على حدود البلاد … وتلا ذلك حروب الإمبراطورية الرومانية ، والإسكندر الأكبر ، التي أنتهجت ذات الأسلوب والمفهوم .

ومع ظهور البارود وإختراع البندقية والمدافع ، بدأت حروب الجيل الثاني المعتمدة على قوة النيران الجديدة بإستخدام البارود ، وكانت أهمها معارك ” نابليون بونابرت ” القائمة على نفس فكر الحشود القديمة ، يضاف إليهم جنود المشاة بالبنادق ومن خلفهم المدفعية .

تطور الأمر والفكر لحروب الجيل الثالث مع بداية الحرب العالمية الأولى بظهور الدبابات والمدرعات والطائرات المقاتلة ، إضافة لظهور المدمرات والبوارج والغواصات ، ليصبح الشكل الجديد للمعارك ما يطلق عليها معارك الأسلحة المشتركة الحديثة التي تشارك فيها القوات البرية والبحرية والجوية والدفاع الجوى والقوات الخاصة ، وهو ما طاله التطوير والإبتكار عبر السنوات بإستخدام التكنولوجيا الحديثة .

ومع نهاية الحرب العالمية الثانية وإستخدام القنبلة الذرية ضد اليابان في ناجازاكي وهيروشيما ، أصبح العالم في إطار حرب الجيل الثالث يقسم الحروب إلى حروب تقليدية وحروب نووية ، حتى بداية حرب فيتنام في نوفمبر 1955م ، التي حاربت فيها الولايات المتحدة الأمريكية لمدة 9 سنوات ونصف السنة تقريباً ، وأنتهت الحرب بإنتصار فيتنام الشمالية ، وإنسحاب القوات الأمريكية ، بعد سقوط سايجون في 30 أبريل 1975م ، تكبدت الولايات المتحدة الأمريكية في هذه الحرب أكبر خسائر بشرية في تاريخها ، إذ فقدت نحو 58 ألف جندي قتيل ، فضلاً عما يزيد على 1600جندي في عداد المفقودين … وأمام هذة الخسائر بدأ البنتاجون التفكير في بدائل للتدخل العسكري في مختلف دول العالم ، متجنباً الخسائر بين صفوف جنوده وضباطه ، فظهر أسلوب جديد يعرف بإسم الحرب بالوكالة .

ومع ظهور مشكلة أفغانستان الناتجة عن الإنقلاب العسكري على الملك ” ظهر شاه ” وصعود النظام الشيوعي بها الذي وقع على معاهدة صداقة مع الإتحاد السوفيتي في ديسمبر 1978م ، تتيح للإتحاد السوفيتي التدخل عسكرياً في أفغانستان لقتال المجاهدين .

وهنا شعرت الولايات المتحدة الأمريكية بخطورة من إقتراب السوفيت من بترول الخليج ، فعقدت العزم على طردهم من أفغانستان دون إستخدام الجندي الأمريكي في تطبيق أول لمفهوم الحرب بالوكالة ، وذلك بدعم حركة المجاهدين بالأموال ، ومدهم بالسلاح حتى نجحوا في قتال السوفيت وطردوهم من أفغانستان ، بعد عشر سنوات .

وفجأة وجدت الولايات المتحدة أن عدداً كبيراً من أولئك المجاهدين قد أنضموا لتنظيم القاعدة ، ونفذوا هجوم الحادي عشر من سبتمبر 2001 م على برجي التجارة العالمي في نيويورك بقيادة ” أسامة بن لادن ” أحد أهم العناصر الذين دعمتهم أمريكا في حربه ضد السوفيت ، سواء بالسلاح أو الأموال التي وصلت إلى 5 مليارات دولار أمريكي .

هنا تأكد للولايات المتحدة الأمريكية عدم جدوى أسلوب الحرب بالوكالة ، فشرعت في التفكير في أساليب جديدة ، حتى ظهر على السطح مصطلح حروب الجيل الرابع ، القائم على هدم الدولة من الداخل ، دون إستخدام القوة العسكرية المباشرة ، وبعد هدم الدولة يتم فرض الإرادة الخارجية ، وإملاء الشروط عليها ، وهو ما كانت تحققه القوات العسكرية بخسائر أكبر .

ويوجد رأي آخر حول ظهور مفهوم ” حروب الجيل الرابع ” فقد أصبح واضحاً بعد الحرب الأمريكية للعراق وذلك لإن الولايات المتحدة الأمريكية بعدما تكبدت خسائر فادحة مادياً وبشرياً نتيجة إطالة هذة الحرب ، تعلمت أنه من الضروري عدم التدخل في مواجهات مباشرة مع أعدائها بل تكون المواجهات بشكل غير مباشر .

وبالرجوع للتعريفات الدولية ، هي نوع من الحروب التي يكون المشارك فيها ليس دولة ، بل جهة فاعلة غير حكومية ، وتضيف المراجع العلمية العسكرية ، أنها حرب معقدة ، طويلة الأمد ، لا مركزية التخطيط ، تعتمد على الهجوم المباشر على ثقافة الخصم ، وأساسها الحرب النفسية ، من خلال وسائل الإعلام الحديثة ، وشبكة الإنترنت ، بإستخدام كل الضغوط المتاحة , سياسياً وإقتصادياً وعسكرياً .

يتضح أن حروب الجيل الرابع والتي ظهرت في عام 1989م وتهدف إلى إفشال الدولة وزعزعة إستقرارها وتدمير القطاع المدني فيها وتفتيت مؤسسات الدولة أمنياً وإقتصادياً وتفكيك وحدة شعبها .

تتصف تلك الحروب بغياب التسلسل الهرمي ، وتتخذ من الإرهاب وتكتيكات التخريب وفى بعض الأحيان حرب العصابات واحدة من أهم أدواتها .

وبينما تؤكد معظم المراجع العسكرية أن حروب الجيل الرابع تعتمد بالأساس على خلق تناقضات ما بين الدولة والمجتمع ، بإستغلال كل الوسائل لإحداث الخلل في العلاقة .

أما حروب الجيل الخامس فهي تعتمد في إستراتيجيتها على إحتلال العقول لا الأرض ، وبعد إحتلال العقول سيتكفل المحتل بالباقي ، فهو يستخدم العنف غير المسلح ، مستغلًاً جماعات عقائدية مسلحة ، و عصابات التهريب المنظمة ، والتنظيمات الصغيرة المدربة ، من أجل صنع حروب داخلية ، تتنوع ما بين إقتصادية وسياسية وإجتماعية للدولة المستهدفة ، وذلك لإستنزافها عن طريق مواجهتها لصراعات داخلية ، بالتوازي مع مواجهة التهديدات الخارجية العنيفة .

الخلاصة أن يتم إسقاط الدولة من الداخل ، وليس بقوات عسكرية ، حيث إن ما يتم إنفاقه على هذة النوعية من الحروب الجديدة لا يساوي ثمن عدة طائرات مقاتلة حديثة .

وعادة ما يتم التخطيط لهذة الحرب مسبقاً ، وتدريب العناصر الموكل إليها إشعال الجبهة الداخلية في أماكن خارج الدولة نفسها وعادة ما يستغل في ذلك المنظمات الأهلية تحت شعار مزيد من الديمقراطية للبلد .

وهكذا تتم قيادة الجموع الحاشدة من أفراد الشعب لإسقاط النظام القائم دون إستخدام القوة العسكرية .

تبدو حروب الجيل الرابع والخامس واضحة في المنطقة العربية خاصة بعد ثورات الربيع العربي في أواخر عام 2010م ، حيث قامت إنتفاضات وثورات في عدد من الدول العربية ضد النظم الإستبدادية الحاكمة … فبدأت في تونس ثم أنتشرت إلى مصر وليبيا واليمن وسوريا ، ونتج عن تلك الثورات الإطاحة بالأنظمة الإستبدادية في بعض الدول مثل تونس ومصر ، وهناك دول تحولت فيها الثورة إلى صراعات مسلحة وحروب أهلية مثل سوريا وليبيا واليمن …

كما أنتشرت التنظيمات والجماعات الإرهابية التي أستغلت حالة عدم الإستقرار والفوضى في المنطقة والتي تعتبر مثال لحروب الجيل الرابع والخامس ، ومن أشهر تلك التنظيمات : تنظيم الدولة الإسلامية ” داعش ” الذي يعتبر من أخطر التنظيمات الإرهابية الموجودة في المنطقة … ( وهو تنظيم لا يحمل من الإسلام شيئاً ، خاصة أن الإسلام هو دين التسامح واليسر ، ويظهر ذلك جليّاً في عدة مجالات منها : العبادات والمعاملات والأحكام والأوامر والنَّواهي ، وبما أنَّ الإسلامَ دينٌ عالميٌّ يُخاطِبُ كُلَّ الألوانِ والأعراقِ والأديانِ … فقد ذَكَر لنا التَّاريخُ أنَّ الأمّمَ السالِفَة ، لم تَعرِف مثلَ المُسلمينَ ، فاتحينَ راحمينَ مُتسامِحين ، فأخلاق الإسلام جميلةٌ طيّبة ، وأحكامه من أعدل الأحكام وأقومِها ) .

أن الأداة الأهم لتحصين المجتمعات ضد هذة الحروب تقوم على تبني سياسات الحكم الرشيد وإدارة عملية إستباقية تركز على التحسين المادي لجوانب الضعف في النظام الإجتماعي ، ويدعو  إلى الإستغلال الإيجابي لطاقات الشباب وتمكينهم مجتمعياً لمواجهة ظواهر مثل البطالة وعدم المساواة ، لكي تحافظ الدولة على شرعيتها أمام مواطنيها لمواجهة كل أشكال الإختراق …

وذلك لأن أهم مؤشر من مؤشرات التحول الراهن في طبيعة الصراعات ما يسمى بـ ” ضعف الولاء ” للدولة الوطنية .

كما يجب أن تراعي الأنظمة الحاكمة للدولة سبل وأساليب مواجهة حروب الجيل الرابع والخامس التي تتنوع ما بين التدابير الأمنية أو بناء شراكات وتحالفات مضادة ، والأهم بناء إستراتيجيات تقوم على توعية المجتمع بمخاطر الدعاوي الرامية إلى إسقاط الدولة ، وتشمل هذة التدابير الإستثمار المباشر في تكنولوجيا المراقبة والرصد وتوظيف تكنولوجيا المعلومات في التحليل التنبُّئِي … حتى تستطيع أن تهيب بكل الشعوب توخي الحذر من التعامل مع الشائعات بإعتبارها أخباراً ضمن خطة الحرب النفسية والإرهابية التي تحاك ضدها كي لا تقع فريسة حروب الجيل الرابع والخامس .

أحمد عبد الصبور
أحمد عبد الصبور

The post حروب الجيل الرابع والخامس … أساسها الحرب النفسية وإستراتيجيتها إحتلال العقول لا الأرض appeared first on بوابة اليوم الإلكترونية.

قد يعجبك ايضآ
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.